الياس سركيس: رجل الدولة في زمن الشقاق - بقلم الدكتور سيمون كشر

  • شارك هذا الخبر
Saturday, June 28, 2025

في غياهب النسيان التي تلف تاريخنا المعاصر، تبرز قامات وشخصيات كان لها الأثر البالغ في مسيرة لبنان. ومن بين هذه القامات، يسطع نجم الرئيس الراحل الياس سركيس، الذي ترأس الجمهورية اللبنانية في أحلك فتراتها، مقدمًا نموذجًا فريدًا للنزاهة، الحكمة، والإخلاص للوطن، وهو نموذج نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى...

قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال مشروع: لماذا يُكتب هذا المقال عن الرئيس الياس سركيس في هذا اليوم بالذات؟ والجواب، ببساطة، أن الذكرى الأربعين لغيابه حلَت أمس، غير أنني أكاد أجزم بأن الغالبية من المسؤولين والمواطنين تمرّ عليهم هذه المناسبة مرور النسيان، دون أدنى وعيٍ أو التفات.

لقد تحول لبنان إلى دولة فاشلة، بفعل تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فتعطلت المؤسسات، وانهار الاقتصاد، ونخر الفساد في جسد الدولة، والشعب يعاني من شدة العيش. فهل لنا أن نستلهم من تجربة الرئيس سركيس درسًا في بناء الدولة والنهوض بالوطن؟

في زمن كان فيه لبنان غارقًا في أتون حرب أهلية مدمرة، استلم الرئيس سركيس سدة الرئاسة عام 1976، في مهمة أشبه بالمستحيلة. لكنه، بفضل حكمته وبعد نظره، وإيمانه الراسخ بلبنان الموحد، سعى جاهدًا للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة، ووقف سدًا منيعًا أمام الانهيار الشامل.

لقد كان الرئيس سركيس وريثًا لمدرسة الرئيس فؤاد شهاب، تلك المدرسة التي قامت على أسس بناء الدولة الحديثة، وترسيخ مؤسساتها على دعائم العدل والمساواة. ومن موقعه كأبرز معاوني الرئيس شهاب، تشرب سركيس مبادئ النزاهة والإصلاح، وتتلمذ على يديه في فن الحكم الرشيد.

بعد ذلك، تولى الياس سركيس حاكمية مصرف لبنان المركزي، حيث أظهر كفاءة واقتدارًا في إدارة السياسة النقدية للبلاد، محققًا استقرارًا ماليًا واقتصاديًا كان له الأثر الإيجابي على معيشة المواطنين بالحد المعقول حينها. لقد كان قراره بتوحيد سعر صرف الليرة اللبنانية، في زمن كان فيه لبنان يعاني من تشوهات اقتصادية، خطوة جريئة وموفقة، عكست رؤيته الاقتصادية الثاقبة.

أما فترة رئاسته للجمهورية، فكانت محطة فارقة في تاريخ لبنان. فبالرغم من الصعوبات الجمّة والتحديات الهائلة التي واجهته، من استمرار الحرب الأهلية إلى التدخلات الخارجية، إلا أن الرئيس سركيس أصر على مبدأ الحوار، وفتح الأبواب أمام المصالحة الوطنية. لقد كان يؤمن بأن الحوار والتوافق هما السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من مستنقع العنف والتقسيم. اتبع فلسفة الصمت والعمل الدؤوب في زمن كثر فيه الصخب والخطب الرنانة التي تغذي الانقسام. وفي السياسة الخارجية كان حكيمًا وهادئًا، يركز على الحوار والتفاوض كسبيل وحيد لإخراج لبنان من أزمته، محاولًا دائمًا جمع الشمل وتحييد لبنان قدر الإمكان عن الصراعات الإقليمية.

لم تكن فترة حكم الرئيس سركيس فترة إنجازات عمرانية أو اقتصادية بالمعنى التقليدي، بل كانت فترة بناء للدولة من تحت الأنقاض. لقد تمكن من الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة الوطنية، ومنع انهيار المؤسسات بشكل كامل. كما سعى جاهدًا لإبقاء الجيش اللبناني، وتحصينه ليكون جيشًا وطنيًا موحدًا لكل اللبنانيين.

إن ما حققه الرئيس سركيس في زمن الحرب والفوضى، يقف اليوم شاهدًا على عظمة رجل الدولة الذي يضع مصلحة وطنه فوق كل اعتبار. فإذا ما نظرنا إلى حال لبنان اليوم، نجد الفرق شاسعًا بين رجل الدولة الذي يضحي من أجل وطنه، وبين الساسة الذين يتصارعون على المصالح الضيقة، ويدفعون بالبلاد نحو الهاوية.

إن ذكرى الياس سركيس ليست مجرد استعراض لتاريخ مضى، بل هي دعوة ملحة للتأمل في حاضرنا، وللتعلم من تجارب من سبقونا. إنه نموذج لرجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رجلٌ في زمن الشقاق، أصر على الحفاظ على شعلة الأمل في أحلك الظروف. لبنان اليوم، بكل ما فيه من آلام وتحديات، بحاجة ماسة إلى أن تستلهم قياداته، بكل مستوياتها، من روح الياس سركيس وإصراره على بناء الدولة، لا على هدمها. فهل يعي من بيده القرار أن خلاص لبنان يكمن في العودة إلى مبادئ الشهابية وسركيس، قبل فوات الأوان؟


نداء الوطن