العلاقات الأميركية – الإيرانية، المتوتّرة منذ ثورة 1979 الإسلامية، وصلت إلى منعطف حرج بعد الضربات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية، تاركةً خياراً تكتيكيّاً وحيداً لطهران، وهو التقارب مع واشنطن. هذه الهجمات، التي استهدفت المنشآت النووية، تركت إيران في حالة اضطراب عسكريّ ودبلوماسيّ.
المفاوضات بين الولايات المتّحدة وإيران، مع تعقيدها، قد تمثّل طوق نجاة لنظام الجمهوريّة الإسلامية الذي يواجه تهديداً وجوديّاً للمرّة الأولى منذ قيام نظام الجمهوريّة الإسلامية. أضعفت الضربات الأميركية والإسرائيلية البنية التحتيّة النووية لإيران وكشفت عن هشاشة قدراتها العسكرية، فزادت الضغوط الداخلية والخارجية على النظام.
يقدّم عرضُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتفاوض، المقدَّم كفرصة لإيران للحصول على الطاقة النووية تحت إشراف صارم، مخرجاً دبلوماسيّاً محتملاً. وعلى الرغم من أنّ القيادة الإيرانية، التي لا تزال تعاني من آثار الضربات وتتشكّك في نوايا ترامب بعد دوره في تسهيل الهجمات الإسرائيلية، تنظر إلى هذه المبادرات بحذر، قد يكون التقارب مع واشنطن السبيل الوحيد لإنقاذ النظام من الانهيار.
يواجه النظام الثوري، الذي بنى شرعيّته على معاداة أميركا ووصفها بـ”الشيطان الأكبر”، مأزقاً أيديولوجيّاً. لكنّ الأزمات المتتالية، من العقوبات الاقتصادية المشدّدة إلى تدهور شبكة وكلائه وصولاً إلى الضربات الأخيرة، هدّدت بقاء النظام.
الضّغوط العسكريّة والاقتصاديّة دافعٌ للتّفاوض
قد تجبر الخيارات العسكرية المحدودة والضغوط الاقتصادية طهرانَ على التفاوض، ولو بشكل تكتيكيّ. التقارب مع واشنطن، إذا تمّ تقديمه كانتصار دبلوماسيّ، يمكن أن يخفّف العقوبات، يعيد الاستقرار الاقتصادي ويعزّز شرعيّة النظام داخليّاً مانحاً إيّاه فرصةً لإعادة بناء قوّته.
يتطلّب الاتّفاق المحتمل تنازلات صعبة. تطالب الولايات المتّحدة بضمانات بأن يظلّ البرنامج النووي الإيراني غير عسكري، مع آليّات تحقُّق صارمة. إيران، من جانبها، تسعى إلى رفع العقوبات، تحسين الوضع الاقتصادي والحفاظ على وجه النظام أمام شعبه.
المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والحرس الثوري الإسلامي يعطون الأولويّة لبقاء النظام، وعلى الرغم من أنّ التنازل للولايات المتّحدة قد يُنظر إليه كخيانة للمُثُل الثوريّة، قد ترى الأصوات البراغماتيّة داخل القيادة في التفاوض وسيلةً لتجنّب الانهيار. التقارب، إذا تمّت إدارته بعناية، يمكن أن يمنح النظام فرصة للصمود، لكنّه يتطلّب إعادة صياغة السرديّة الثورية لتبرير التعامل مع “العدوّ” التاريخي.
تظلّ إسرائيل، التي كثّفت ضرباتها على الأهداف النووية والعسكرية الإيرانية، ملتزمةً منع إيران من امتلاك سلاح نوويّ، وهي تراقب عن كثب إمكان عقد صفقة أميركية إيرانية لا تلبّي طموحاتها لكي تندفع إلى العمل على تقويض أيّ اتّفاق محتمل.
وقف إطلاق النّار هشّ
وقف إطلاق النار الهشّ بين إسرائيل وإيران، الذي توسّطت فيه الولايات المتّحدة في حزيران 2025، يواجه خطر الانهيار إذا فشلت المحادثات. إسرائيل، التي تدعو الولايات المتّحدة إلى مزيد من الضربات الجوّية، مستعدّة لمواصلة الحرب الخفيّة من خلال العمليّات السرّيّة، الهجمات السيبرانيّة والاغتيالات لتقويض قدرات إيران. تشمل مخاوف إسرائيل أيضاً شبكة وكلاء إيران، مثل “الحزب” و”حماس”، التي، مع إضعافها، لا تزال تشكّل تهديداً.
إذا أعادت إيران بناء وكلائها أو استأنفت تخصيب اليورانيوم، فقد تلجأ إسرائيل إلى ضربات استباقية تهدّد بحرب إقليمية شاملة. سيضغط انهيار وقف إطلاق النار على العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، لأنّ إدارة ترامب تسعى إلى تجنّب التورّط في صراع طويل. من جانبها، قد تلجأ إيران إلى عمليّات انتقاميّة غير متكافئة تستهدف المصالح الإسرائيلية عالميّاً فتتسبّب بمزيد من التوتّرات.
في أوقات الشدّة اكتشفت طهران محدوديّة الدعم الروسي التي تزيد من الضغط على القيادات الإيرانية للتوصّل إلى تفاهمات مع واشنطن.
قدّمت روسيا، الحليف الاستراتيجيّ لإيران، دعماً دبلوماسيّاً، لكنّها فشلت في توفير أسلحة متقدّمة أو مساعدة عسكريّة مباشرة خلال الضربات الأخيرة. انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا استنزف مواردها، وجعل إيران مكشوفة عسكريّاً. تتماشى إدانة الكرملين للضربات الأميركية مع موقف إيران، لكنّ تقاعس موسكو أثار تساؤلات عن موثوقيّتها كشريك.
قد يدفع هذا الفشلُ إيرانَ لإعادة تقويم تحالفاتها. التقارب مع واشنطن، مع صعوبته أيديولوجيّاً، يمكن أن يكون تحوّطاً من الاعتماد المفرط على روسيا. قيادة إيران، المدركة لأولويّات موسكو الذاتيّة، قد ترى في الاستعانة بالدبلوماسيّة مع الولايات المتّحدة وسيلة لاستعادة النفوذ، خاصة إذا ضمنت تخفيف العقوبات أو دعماً اقتصاديّاً. قد يعزّز هذا التحوّل من قدرة النظام على الصمود، ويجعل التفاوض مع “الشيطان الأكبر” خياراً استراتيجيّاً للحفاظ على السلطة.
وكلاء إيران الضعفاء والتّراجع الاستراتيجيّ
شبكة وكلاء إيران، ركيزة استراتيجيّتها الإقليمية، تضرّرت بشكل كبير. “الحزب”، “حماس” وغيرهما تكبّدوا خسائر كبيرة من العمليات الإسرائيلية، فقلّت قدرة إيران على الردع غير المباشر. هذا التراجع، إلى جانب الضربات على مواقعها النووية، أضعف موقف طهران التفاوضي، بالإضافة إلى محدوديّة تهديدات طهران بالانتقام من القوّات الأميركية في المنطقة.
يُجبر فقدانُ الوكلاء إيرانَ على التراجع الاستراتيجي، مع التركيز على الاستقرار الداخلي بدلاً من المغامرات الإقليمية. الضغوط الاقتصادية، المتفاقمة بسبب العقوبات، وتكاليف إعادة البناء تزيد من هذا الضغط. التقارب مع الولايات المتّحدة يمكن أن يخفّف هذه الأعباء ويمنح النظام فرصة لإعادة ترتيب أولويّاته. ومع ذلك، يجب على القيادة الثورية تقديم أيّ اتّفاق كانتصار للحفاظ على شرعيّتها أمام الشعب.
صفقة سلام أم استئناف الحرب؟
قد تكون صفقة سلام، مع صعوبتها، مفتاح بقاء النظام الإيراني. فاتّفاق محدود يركّز على الشفافيّة النووية وتخفيف العقوبات أكثر جدوى من تقارب شامل، لكنّه يتطلّب تنازلات من الطرفين.
على الجانب الآخر، يبقى استئناف الصراع احتمالاً قويّاً. إيران، تحت ضغطٍ لإظهار القوّة، قد تلجأ إلى هجمات رمزية – سيبرانية، أو عبر وكلاء، أو استفزازات في الخليج. استعداد إسرائيل للضرب مجدّداً، ربّما بدعم أميركي، قد يشعل حرباً أوسع. التقارب مع واشنطن، إذا نجح، يمكن أن يجنّب إيران هذا السيناريو، معزّزاً استقرار النظام.
العلاقات الأميركية – الإيرانية أمام تحدٍّ جديد وغير مسبوق. الضربات أضعفت إيران، لكنّها لم تكسر إرادتها، ومبادرات ترامب الدبلوماسية تقدّم فرصة لتخفيف التصعيد قد تنقذ نظام الجمهورية الإسلامية من الانهيار. يقظة إسرائيل، وعدم موثوقيّة روسيا وإضعاف وكلاء إيران تشكّل مشهداً معقّداً قد يكون فيه التقارب مع واشنطن الخيار الوحيد للحفاظ على النظام. ومع ذلك، الأيديولوجية المعادية لأميركا تحدّ من مرونة طهران. ستحدّد الأيّام المقبلة ما إذا كان النظام سيستغلّ الفرصة الدبلوماسية المتاحة لإعادة بناء قوّته أم ستنزلق المنطقة نحو حرب جديدة، مع تداعيات عالميّة في كلتا الحالتين.