ما إن أفصح الرئيس الأميركي دونالد ترمب عما يساوره من أفكار وصفها مراقبون كثر بأنها "شيطانية"، حول أن هناك حقاً للولايات المتحدة في قناة السويس "المصرية أباً عن جد"، حتى قامت الدنيا ولم تقعد، فيما عدها المصريون خروجاً عن المألوف من جانب رئيس كثيراً ما باغت العالم ليس فقط بتصريحاته الغريبة المثيرة للجدل، بل وبقراراته غير المدروسة التي منها ما يعود ليعلن نقيضها فور اصطدامه بعدم قابليتها للتنفيذ. وفيما استقبل أبناء "المحروسة" مثل هذا القرار بكثير من النكات والسخرية المفعمة بكثير من القلق، يطلب ترمب من وزير خارجيته مارك روبيو دراسة هذا الملف لوضعه حيز التنفيذ من دون أي اعتبار للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
ولعل أحداً لا يماري في ما سبق وأقرته السلطات المصرية من اتفاقات وقوانين تؤكد حقوق السيادة والإدارة لقناة السويس على مر تاريخ القناة منذ افتتاحها في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1869، ومنها اتفاقية القسطنطينية عام 1888 التي أكدت حياد القناة واعترفت بسيادة مصر عليها. كما أقرت هذه الاتفاقية حق مصر في فرض وتحصيل رسوم العبور ومنحتها حقوق اتخاذ ما يلزم من تدابير للدفاع عنها. وذلك ما تأكد لاحقاً عبر معاهدة 1936 واتفاقات الجلاء مع بريطانيا عامي 1936 و1954.
وكان عبدالناصر سبق وأعلن في قراره حول تأميم القناة في 26 يوليو (تموز) 1956، أنها "شركة مساهمة مصرية ذات سيادة"، وهو ما لم تعترض عليه الولايات المتحدة الأميركية في حينه. وإن القانون رقم 161 لسنة 2963 أيضاً ينص على إمكانية الحجز الإداري ضد السفن الممتنعة عن دفع الرسوم. وهو أيضاً ما لم تعارضه أية إدارة أميركية منذ إنشاء القناة. وذلك في وقت تؤكد المادة الثامنة من القرار الجمهوري رقم 30 لسنة 1975 على أن هيئة قناة السويس هي الجهة المعنية بفرض رسوم العبور. كما تنص المادة 14 من القرار نفسه على المساواة بين جميع السفن والأشخاص من دون تمييز "لا يجوز للهيئة أن تمنح أية سفينة أو أي شخص طبيعي أو اعتباري أية فوائد أو ميزات لا تمنح لغيرها من السفن أو الأشخاص الاعتباريين في نفس الأحوال".
ومن اللافت في هذا الصدد ما تزخر به ملفات وزارة الخارجية الروسية من ملفات تؤكد كل هذه الحقائق، وتحكي قصة الصراع الذي نشب في خمسينيات القرن الماضي، وما شهدته المنطقة من عدوان "ثلاثي" شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956، لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عنه، وإن أقرت بدورها في حق مصر في تأميم القناة وتأكيد سيادتها عليها، وهو ما جاء في كتاب "ملفات سرية" للمؤلف السوفياتي– الروسي ليونيد مليتشين الصادر في موسكو عام 2005، فضلاً عما أوردناه في كتابنا "القاهرة – موسكو... وثائق وأسرار" الصادر عام 2019 عن "دار الشروق" بالقاهرة.
موسكو كانت على مقربة من فكرة التأميم
غير أن موسكو لم تكن بعيدة من فكرة تأميم قناة السويس قبل إعلانها في يوليو 1956، وفقاً لما عثرنا عليه بين ملفات ووثائق أرشيف وزارة الخارجية الروسية لدى إعداد كتابنا "القاهرة -موسكو... وثائق وأسرار"، الصادر في القاهرة عام 2019. وفي هذا الصدد نستشهد بما قاله دميتري شيبيلوف وزير الخارجية السوفياتي في خطابه الذي ألقاه في لندن يوم 17 أغسطس (آب) من عام 1956 في شأن قناة السويس تأكيداً لحق مصر في ملكية القناة وفي اتخاذ قرار التأميم:
"لا يمكن لأي امرئ كان أن ينكر أن تأميم الملكية الموجودة في الأراضي التي تشملها صلاحية الدولة، عمل مشروع من وجهة نظر القانون الدولي. ومن حق الدولة أن تؤمم الملكية بغض النظر عما إذا كان أصحاب الملكية من مواطني هذه الدولة أو من الأجانب، وهو ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها الصادر عام 1952".
وفي الخطاب نفسه حذر شيبيلوف من مغبة الاستعدادات التي تبذل من جانب بريطانيا وفرنسا بقوله:
"ليس سراً أن أوساطاً بعينها في فرنسا وبريطانيا تهدد باستخدام القوة ضد مصر سعياً وراء فرض خطة الإدارة الدولية لقناة السويس، ما لم تمتثل مصر لهذه الخطة".
كما عاد شيبيلوف ليكشف في خطاب آخر ألقاه في المؤتمر نفسه، عما تبذله الولايات المتحدة من محاولات غير مباشرة بهدف تدويل قناة السويس بما يفقد مصر السيادة على القناة، وينال من مشروعية امتلاكها وامتلاك حق السيادة عليها. ومن هنا، كان رفض الاتحاد السوفياتي مشروع "دالاس" الأميركي الذي كان يستهدف مصادرة حق مصر في تأميم هذا المجرى الملاحي المهم وحرمان مصر من حقوق السيادة، وإقامة نظام استعماري من خلال امتياز "تشكيل إدارة أجنبية لقناة السويس" تكون معها "دولة داخل الدولة".
وتقول وثائق وزارة الخارجية السوفياتية عن تلك الحقبة الزمنية، إن الاتحاد السوفياتي أعلن صراحة وفي أكثر من مناسبة، عن رفضه أية حلول انفرادية خارج إطار مؤتمر لندن، بما في ذلك ما سمي "اللجنة الخماسية" التي حاولت تمرير ما سمي "مشروع دالاس"، الذي ينص على "تسليم قناة السويس إلى إدارة أجنبية".
"بيان الحكومة السوفياتية" و"الملفات السرية"
كشف البيان الصادر عن الحكومة السوفياتية في 15 سبتمبر (أيلول) 1956، أن حكومتي بريطانيا وفرنسا جنحتا نحو الخيار العسكري للضغط على مصر، في وقت تحاول الولايات المتحدة فيه فرض مشروعها الذي حمل اسم وزير خارجيتها جون فوستر دالاس. كما أشار البيان السوفياتي إلى الحشود البحرية والجوية والبرية على مشارف قناة السويس، إلى جانب إرسال وحدات إنزال جوية بريطانية إلى قبرص، فضلاً عن نقل حشود فرنسية مماثلة من جيبوتي. وذلك إلى جانب ما رصدته موسكو من بوادر تواطؤ بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بهدف تشكيل "رابطة المستفيدين" من القناة التي شكلت لتنسيق الملاحة في قناة السويس والتعاقد مع المرشدين الأجانب، وبما يكفل لها فرض رؤيتها على الحكومة المصرية. وذلك بهدف تصوير رفضها للتعاون مع هذه الرابطة، وكأنه "انتهاك لمعاهدة 1888 حول قناة السويس"، بما يقتضي معه انتزاع إدارة القناة من يدي مصر وإحالتها إلى إدارة أجنبية.
أما عن معرفة الاستخبارات المركزية الأميركية بالخطة، فقال مليتشين في الكتاب نفسه "ملفات سرية"، إن الاستخبارات الأميركية كانت على علم بكل تفاصيل الاستعداد "لحملة سيناء"، أو ما بات يعرف بـ"العدوان الثلاثي" ضد مصر. على رغم نفي الإدارة الأميركية، وما صدر عن الكونغرس الأميركي من اتهامات للاستخبارات المركزية الأميركية بالتقصير. كما أشار مليتشين إلى أن كل ذلك لم يكن يعني سوى تصفية حسابات داخلية قديمة منذ اتخذ الرئيس الأميركي أيزنهاور قراره حول تعيين الأخوين جون فوستر دالاس وزيراً للخارجية، وآلان دالاس رئيساً للاستخبارات المركزية الأميركية.
على أن ذلك كله لم يمنع الزعيم السوفياتي السابق نيكيتا خروشوف من التعاون مع الإدارة الأميركية ليعلن معها إدانتهما لـ"العدوان الثلاثي على مصر"، وإن عاد الاتحاد السوفياتي وحده ليصدر بيانه التاريخي في التاسع من أغسطس (آب) 1956، وما تضمنه من تهديدات دفاعاً عن حق مصر حكومة وشعباً في قرار التأميم، إضافة إلى إدانة محاولات عقد مؤتمر دولي في لندن أعلنت موسكو عدم مشروعيته.
الإنذار السوفياتي والتهديد المباشر بقصف بريطانيا وفرنسا
وشروع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في استخدام قوتها العسكرية ضد مصر، هدد باحتمالات تحول العدوان إلى حرب كادت تزيد مساحتها ويتزايد عدد أطرافها حتى "حرب عالمية ثالثة"، على حد تعبير نيكولاي بولجانين رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي في رسائله إلى زعماء البلدان الثلاثة. وكان شيبيلوف وزير خارجية الاتحاد السوفياتي السابق استبق ما ترامى من أخبار الاستعداد للعدوان الثلاثي، بما قاله تحذيراً من مغبة هذه الاستعدادات:
"ليس سراً أن أوساطاً بعينها في فرنسا وبريطانيا تهدد باستخدام القوة ضد مصر سعياً وراء فرض خطة الإدارة الدولية لقناة السويس إذا ما لم تمتثل مصر لهذه الخطة. إن مثل هذه المخططات تعني ضمناً تهديد السلام في الشرقين الأدنى والأوسط. كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن ذلك لن يقتصر على صدام جزئي في منطقة قناة السويس، بل من الممكن أن يتحول إلى صدام كبير قد يتعدى حدود المنطقة".
كما أنه عاد وفي خطاب آخر ألقاه في 10 أغسطس من العام نفسه ليشير إلى "المحاولات الرامية إلى تدويل قناة السويس بما يفقد مصر حقوقها في القناة، وينال من مشروعية امتلاكها وامتلاك حق السيادة عليها".
وكان بولجانين أكثر حدة في رسالته التي بعث بها إلى أنطوني أيدن رئيس الحكومة البريطانية، حيث تساءل في لهجة لا تخلو من مغزى:
"في أي وضع يمكن أن تكون عليه بريطانيا إذا ما تعرضت لهجوم من جانب دول تفوقها قدرة وقوة؟ وماذا يمكن أن تكون عليه الحال إذا استخدمت مثل هذه الدول أسلحتها الصاروخية على سبيل المثال؟".
وأضاف بولجانين:
"إننا مصممون على دحر المعتدي بالقوة والعمل من أجل إقرار السلام في الشرق الأوسط".
كما أكد هذا في رسالتين بعث بهما أيضاً إلى جي موليه رئيس الحكومة الفرنسية، وديفيد بن جوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية. وذلك إضافة إلى البيان الصادر عن الحكومة السوفياتية في الـ10 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1956 بما تضمنه من تهديدات تقول:
"إن قيادة الاتحاد السوفياتي تؤكد أنه وفي حال لم تعلن فرنسا وبريطانيا وإسرائيل سحب قواتها من الأراضي المصرية امتثالاً لقرارات الأمم المتحدة حول وقف العدوان والانسحاب، فإن الهيئات السوفياتية المعنية لن تتردد في السماح للمتطوعين من المواطنين الروس الراغبين في السفر للقتال إلى جانب الشعب المصري في نضاله من أجل الاستقلال".
ولا يفوتنا بهذا الصدد أن نشير إلى أن الولايات المتحدة عادت لتنضم في وقت لاحق إلى التهديدات السوفياتية، مما أسهم في اهتزاز مواقع "قوى العدوان" وسرعة وقف إطلاق النار، وبدء انسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية. كما كانت جموع المواطنين السوفيات تدفقت إلى مبنى السفارة المصرية في قلب العاصمة موسكو، تعلن استعدادها للتطوع في المشاركة مع أبناء مصر في التصدي لـ"العدوان الثلاثي"، وهو ما عاد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف ليقول في رسالته التي بعث بها إلى الرئيس جمال عبدالناصر، "إن الاتحاد السوفياتي وبكل إخلاص، أيد ويؤيد وسيؤيد نضال الشعب المصري".
وذلك في وقت كانت الولايات المتحدة شريكاً رابعاً في "العدوان الثلاثي" عام 1956. ولكنها اختلفت مع فرسانه الثلاثة في أسلوب تنفيذه وفي التوقيت وفي الإعداد السياسي له. وكان هذا الخلاف ومضعفاته هو ما قادها في نهاية راضية أو كارهة إلى دور غريب في حرب السويس ساعد على انتصار مصر على هزيمة "الفرسان الثلاثة" وهم "أقرب الحلفاء وأعز الأصدقاء"، وهو ما ننقله عن محمد حسنين هيكل في كتابه "قصة السويس... آخر المعارك في عصر العمالقة".