تحصيل "أوفلاين" وتلاعب شركات التحويل...هذا ما يمنع الشفافية في مالية الدولة!
شارك هذا الخبر
Wednesday, June 25, 2025
في عصر يشهد تطوراً تكنولوجياً متسارعاً وتحولات عميقة في استخدام الذكاء الاصطناعي، لا تزال ملايين الملفات وفواتير الجباية تتراكم ورقياً في أدراج وزارة المالية. هذا المشهد التقليدي لا يعكس فقط عجز الوزارة عن مواكبة العصر ومكننة أنظمتها، بل يُعد نتيجة متراكمة لسنوات من سوء الإدارة وتغييب الرؤية الإصلاحية، مرّت خلالها حكومات ووزراء من دون اتخاذ خطوات جذرية لإصلاح البنية الإدارية والمالية. وكما في سائر أزمات وزارة المالية المرتبطة بعمليات التحصيل، كان لشركات تحويل الأموال المكلّفة بالتحصيل الضريبي اليد الطولى في هذه الأزمة. فقد ساهمت هذه الشركات، بشكل مباشر أو غير مباشر، بابتكار أساليب وعمليات ساعدت على تفاقم الفوضى وتراكم ملايين الفواتير غير الممكننة، ما أضعف الشفافية وعمّق الأزمة.
ورغم أن هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، فإن تفاقمها اليوم يجعل من إصدار قطع حساب سنوي مهمة شبه مستحيلة، في ظل غياب قاعدة بيانات دقيقة وآلية إلكترونية فعالة، تتيح تتبّع الإيرادات والجباية بشكل متكامل وموثوق.
في هذا السياق، يبرز إعلان الدول المانحة عن تقديم دعم بقيمة 6 ملايين دولار لوزارة المالية، خصّصها وزير المالية ياسين جابر، لتمكين وتعزيز الأنظمة الضريبية والعقارية، ودعم مسار الإصلاح والتحول الرقمي في الوزارة. غير أن فعالية هذا الدعم ستتوقف على قدرة الدولة على كسر الحلقة المفرغة من الفوضى الإدارية، ومساءلة الجهات المتورطة في إضعاف النظام الضريبي، ووضع خطة واضحة لمكننة القطاع المالي وإنشاء قاعدة بيانات دقيقة وشفافة.
بين النظري والتطبيق نظرياً تُعدّ أنظمة وزارة المالية من حيث المبدأ مترابطة بشكل كامل، حيث تُربط جميع العمليات المالية بنظام المحاسبة المركزي. ويُظهر نظام التحصيل الضريبي، على وجه الخصوص، بيانات كل مكلّف ضريبي من حيث المبالغ المستحقة عليه وتلك التي تم تسديدها. ويمكن للمكلّف طباعة التكليف مباشرة من الإنترنت، ثم يقوم بالدفع عبر إحدى شركات التحصيل المالي (وهي OMT وBOB finance وWOO CASH أي Whish Money وCash plus وLiban post وMTM وKatch telecom وCash United). وعند تسديد المستحقات واستلام الوصل، تُحوَّل المعاملة إلكترونياً من شركة التحصيل إلى وزارة المالية، حيث يُشطب التكليف تلقائياً.
لكن فعلياً، على أرض الواقع، فقد نشأت ممارسات خارج هذا المسار المُمكنن، عُرفت بما يسمى بالتحصيل "أوفلاين" (Offline) ويعود ذلك إلى أن نحو 12 نوعاً من التكاليف الضريبية لم تُدرج بعد ضمن النظام الإلكتروني، ما يستوجب تقديمها يدوياً. كذلك، تُجرى عمليات التحصيل يدوياً عند تعذّر استخدام النظام الإلكتروني بسبب أعطال تقنية، أو انقطاع الكهرباء، أو نقص المستلزمات مثل الورق والحبر وغيرها في فروع شركات التحصيل.
في هذه الحالات، لا يكون هناك أي ربط إلكتروني مباشر بين شركات التحصيل ووزارة المالية. فبعد الدفع، يُسلّم وصل المعاملة الضريبية يدوياً من قبل الشركات إلى الوزارة، وتشمل هذه الطريقة كل العمليات التي تتم خارج النظام الإلكتروني، وهنا تكمن الكارثة.
ففي عام 2024 وحده، تراوح عدد المعاملات التي لم تُدرج في نظام الوزارة حتى الآن بين مليون و850 ألف ومليوني معاملة، فيما سُجّل حوالى 430 ألف معاملة غير مدخلة خلال الفصل الأول من العام 2025.
والأزمة لا تقتصر فقط على الحجم الكبير للمعاملات غير المُدرجة وغير الممكننة، بل تتفاقم بسبب أن جزءاً كبيراً منها يُقدّم من قبل شركات التحصيل منقوصاً أو غير مستكمل البيانات، وهو ما يعيق عملية رقمنتها لاحقاً في وزارة المالية. كما يُشكّل النقص الحاد في الكوادر البشرية داخل الوزارة أحد أبرز العوائق أمام تسريع وتيرة إدخال هذه المعاملات وتحديث النظام المالي بشكل شامل.
TVA والجمارك... لا ربط إلكتروني أزمة تراكم معاملات التحصيل الضريبي في وزارة المالية والفوضى التي تعمل بها شركات التحصيل، تقف حائلا دون إعداد قطع حساب، ودون إعداد موازنة عامة شفافة ودقيقة، إذ أن أرقام الإيرادات غير دقيقة.
ولا تقتصر أزمة غياب الدقة والشفافية على التحصيل "أوف لاين" إنما أيضاً على مديريات أخرى في وزارة المالية. فنظام الضريبة على القيمة المضافة (TVA) الذي يُعد من أكثر الأنظمة المالية فعالية في جباية الأموال لصالح خزينة الدولة، إلا أنه لا يرتبط مباشرةً بأنظمة وزارة المالية، بل يتم تشغيله وإدارته من قبل فريق من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، الذي تتولى وزارة المالية تمويله. وفي مفارقة لافتة، فإن هذا النظام الحيوي لا يخضع لإشراف تقني أو تشغيلي مباشر من الوزارة.
إلى جانب ذلك، تبرز المديرية العامة للجمارك كمصدر أساسي ومهم لعائدات الخزينة العامة، ومع ذلك، لا تزال خارج إطار الربط الإلكتروني مع وزارة المالية، ما يحرم الدولة من إمكانات تحليل فوري ومراقبة فعالة لحجم الإيرادات المتأتية منها. أما الدوائر العقارية، فتواجه بدورها تحديات جدّية في آلية التحصيل، ما يؤثر سلباً على دقة الجباية وشفافيتها.
وما يزيد من تعقيد المشهد المالي، هو وجود إيرادات غير واضحة المصدر أو التصنيف داخل حسابات وزارة المالية، ما يطرح علامات استفهام حول دقة البيانات المالية وكفاءة الإدارة العامة للعائدات.
استحالة إعداد قطع حساب في ظل هذا الواقع المالي المربك، يصبح إنشاء قطع حساب دقيق وشامل أقرب إلى التحدي المستحيل، إذ إن غياب التكامل بين الأنظمة الأساسية للجباية -من التحصيل أوف لاين إلى TVA والجمارك إلى الدوائر العقارية- يخلق فجوات كبيرة في البيانات، ويجعل من الصعب تتبّع الأموال العامة بشكل شفاف.
فقطع الحساب، الذي يُفترض أن يكون صورة سنوية واضحة عن الواردات والنفقات الفعلية للدولة، يتطلب توفر معلومات دقيقة، موحدة، ومتكاملة من جميع الإدارات والجهات التي تجبي. لكن في ظل إدارة خارجية لنظام القيمة المضافة، وعزلة الجمارك عن أنظمة المالية، وضعف التحصيل في الدوائر العقارية، ووجود إيرادات مبهمة أو غير مصنفة، فإن المحاسبة الفعلية تصبح أقرب إلى التقديرات منها إلى الواقع.
وبالتالي، فإن أي محاولة لوضع قطع حساب في هذا السياق ستكون شكلية أو منقوصة، لا تعكس الوضع الحقيقي للمالية العامة، وقد تُستخدم كأداة سياسية أكثر من كونها وثيقة مالية شفافة وموثوقة. من هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاحات جذرية، تبدأ بربط الأنظمة المالية كافة، وتعزيز الرقابة الداخلية، واعتماد الشفافية كأساس في الإدارة العامة.
ولا بد من الإشارة إلى أن شركات تحويل الأموال تستوفي جميع الضرائب والرسوم لصالح وزارة المالية، وترتبط مع الوزارة بمذكرات تفاهم، بمعنى تقوم هذه الشركات بعمل الجباية وتشكل الرابط بين المواطن والوزارة. وكانت "المدن" قد أضاءت على مخالفات تلك الشركات واستغلالها للمهام الموكلة بها وسوء أمانتها للمال العام الذي تقوم بتحصيله.