مشروع لدمج الأشخاص المعوقين بـ"الأميركية": تجربة جامعية وانخراط مجتمعي
شارك هذا الخبر
Friday, June 6, 2025
منذ العام 2016، شرّعت الجامعة الأميركية أبوابها لاحتضان مشروع لا يشبه الدولة اللبنانية بشيء، مشروع "الخطوة التالية" (Next Step)، أو كما يحب طلابه تسميته بـ"مسيرتنا إلى الأمام". هو عبارة عن برنامج جامعي وأكاديمي وتدريب مهني دامج، مقتبس من تجربة أميركية، يُمنح من خلاله الأشخاص المعوقين فرصة لعيش الحياة الجامعية الحقيقية: مقاعد دراسية، ومسارات مهنية، ومهارات حياتية تعزّز استقلاليتهم وتعدّهم للاندماج في المجتمع وفي سوق العمل.
من التهميش إلى التشغيل يجلس شبّان وشابات في قاعة واحدة، يعانون من متلازمة داون، أو طيف التوحّد، أو صعوبات التعلّم، أو تأخر ذهني... لا يريدون التعامل معهم بطريقة خاصة، بل يريدون فرصة حقيقية. لا يحضرون ليتلقوا الشفقة، بل ليوسّعوا آفاقهم ويبنوا ثقتهم بأنفسهم، في جامعة لا تمنحهم شهادة فحسب، بل تعيد إليهم حقهم في أن يكونوا مواطنين متساوين مع الآخرين.
في هذا البرنامج، يخضعون لدورات مهنية، وتدريب على الحياة اليومية، وتعلّم مهارات الدخول إلى سوق العمل، ويتلقون الدعم النفسي والتربوي، كما تؤكد مديرة البرنامج منى آغا مكتبي. وتقول في حديثها لـ"المدن": "من خلال هذا التدريب، يعيش هؤلاء الشباب تجربة الجامعة ويتخرجون من مركز التعليم المستمر. ونساعدهم على اختيار مسارات مهنية مناسبة لهم. ونعدّل كل دورة تدريبية بما يتلاءم مع احتياجاتهم".
وتضيف: "قبل سنوات، لم يكن المجتمع جاهزاً لتقبّلهم في المؤسسات والشركات. كنا نناضل، نطرق الأبواب. اليوم، المؤسسات تدق بابنا. ازداد الوعي والمجتمع يتقبّلهم أكتر". لكن هذا القبول لا ينعكس دائمًا في السياسات العامة. صحيح أن وزير الصحة أصدر مؤخرًا قرارًا يسمح للأشخاص المعوقين بالاستفادة من التأمين الصحي في المراكز والمستوصفات الحكومية، لكن ذلك يبقى خطوة محدودة في مسار طويل. وتصف منى مكتبي هذا الأمر بأنه "تطوّر جديد، يلبي جزءًا من احتياجاتهم، ويعزز انخراطهم في المجتمع كأي فرد آخر".
ومع ذلك، لا يزال النظام اللبناني يتعامل معهم كقاصرين دائمين، لا يحقّ لهم فتح حسابات مصرفية، ولا يُعترف باستقلاليتهم القانونية. وهنا تشرح مكتبي: "هدفنا اليوم هو انتزاع اعتراف حقيقي بوجودهم كأفراد مستقلين يتمتعون بكامل حقوقهم".
أمّهات يصنعن جمهورياتهن الصغيرة في بلدٍ لا يُرى فيه الأشخاص المعوقين إلا كعبء أو كمادة خام لتقارير الجمعيات المدنية، تقود مجموعة من الأمهات مشروعًا له هدف واحد: نقل أبنائهن من موقع الرعاية إلى موقع الشراكة. تشرح ميادة قصيباتي، رئيسة الجمعية التي ترعى هذا البرنامج، وهي أيضًا والدة أحد المنتسبين، طبيعة المشروع بقولها: "نستقبل الشباب والشابات من عمر 18 حتى 35 عامًا، ونوفّر لهم تدريبًا مهنيًا وحياتيًا شاملًا. الهدف هو إعدادهم للاندماج الفعلي في سوق العمل، وليس الاكتفاء بتدريب نظري معزول عن الواقع".
هذه الرؤية لا تقتصر على الجانب المهني فحسب، بل تتّسع إلى البعد النفسي والمجتمعي، كما تشير الدكتورة رُلى بلعة، المتخصصة في علم النفس التربوي: "نحن لا نعمل فقط على تحسين حياة الأفراد، بل نحاول تغيير النظرة المجتمعية إليهم. نُثبت أنهم قادرون على الإنتاج والمساهمة، شرط أن يُوفَّر لهم البرنامج الصحيح الذي يلبّي حاجاتهم ويطوّر قدراتهم".
وتأتي الشهادات الحيّة لتؤكّد هذه المقاربة. فاديا شرف الدين، والدة مريم، إحدى الطالبات في سنتها الثالثة تشرح: "لقد مض ثلاث سنوات منذ انضمام ابنتي إلى البرنامج، وخلال هذه الفترة تغيّرت كثيرًا. أصبحت أكثر قدرة على التعامل مع المال، وأكثر وعيًا في علاقاتها الاجتماعية. تطوّرت شخصيتها، واكتسبت ثقة بنفسها لم تكن تمتلكها من قبل". أما ماجدة دجاني، جدّة أحد الطلاب المصابين بالتوحّد، فتقول عن حفيدها: "بدأ يقرأ ويكتب، وأصبح ينتظر يوم الجامعة بفرح حقيقي. يشعر أن هذا المكان ينتمي إليه، وكأن هويته تُعاد صياغتها هنا".
التحوّل لا يقف عند حدود القراءة والكتابة. منى سلامة، طبيبة أطفال ووالدة الطالب عمر، ترى أن ابنها اكتسب ما هو أعمق: "تعلّم إدارة الوقت والمال، وكيفية التعامل داخل المنزل ومع المجتمع. تغيّر وعيه، وأصبح أكثر استعدادًا للعمل والمشاركة. البرنامج لم يعلّمه مهنة فقط، بل علّمه كيف يعيش".
تطبيق القوانين رغم هذه النماذج المضيئة، تبقى معاناة الأشخاص المعوقين في لبنان مركّبة. تبدأ من جهل بعض العائلات بالتعامل معهم، وتمرّ عبر جدران التنمّر الاجتماعي، لتصطدم أخيرًا بمنظومة قانونية مهترئة، لا تطبّق القوانين التي أُقرت أساسًا لحماية حقوقهم. منذ عام 2000، أقرّ المجلس النيابي اللبناني القانون رقم 220 الذي ينص على مجموعة من الحقوق الأساسية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة: الحق في التعليم، والصحة، والعمل، والسكن، والتنقل، وإعادة التأهيل. لكن هذا القانون بقي حبرًا على ورق. لم تُفعّل مواده إلا بشكل جزئي وهش، وأغلب مستحقاته بقيت رهينة المبادرات الفردية أو المؤسسية المحدودة.
تخوض هذه الأمهات، ومعهنّ أبناؤهنّ، نضالًا يوميًا للحصول على الحد الأدنى من حقوقهم في العيش الكريم. والجامعة الأميركية في بيروت، عبر برنامج "Next Step"، لا تقدّم مجرد تدريب أكاديمي، بل تفتح كوة في جدار الظلام، تُطلّ منها احتمالات العدالة، وتُذكّر بأن المواطنة ليست امتيازًا يُمنح، بل حق يُنتزع بالنضال والوعي والتجربة.