هو واقع لا يمكن تجاهله والحالات التي نسمع عنها كثيرة، لكن في كل مرة يُفتح فيها الحديث عن العدوى التي يلتقطها المرضى داخل المستشفيات، يسود صمت ثقيل يشبه التواطؤ، وكأنّ هناك اتفاقاً ضمنياً على التعتيم. المستشفيات تحاول التستّر على الأمر، والعاملون في القطاع الصحي ينفضون يدهم من المسؤولية، بينما يظل المريض في لبنان وحيداً في المعادلة، ضحيةً لنظام استشفائي يعاني ما يعانيه من مشاكل. فهل صار العلاج أخطر من المرض وهل بات المريض يخشى الدخول إلى المستشفى؟ هل أصبح المريض في خطر في مستشفى نشد فيها الأمان الصحي؟
كثيرة هي القصص التي نسمعها عن أشخاص دخلوا أصحاء فخرجوا مرضى، لكن ذلك لا يخلو من المبالغة والتضخيم، أما الحقيقة فأبعد من ذلك بكثير. فالمستشفيات كتلة جراثيم من المستحيل ضبطها ولا بد أن تتفلت منها فيروسات وباكتيريا وميكروبات تخبط عشوائياً، من هنا تمثل العدوى المكتسبة داخل المستشفيات تحدياً صحياً لا على المستوى اللبناني فحسب بل على المستوى العالمي وتتحول إلى مشكلة حقيقية لا يمكن تجاهلها حين ترتفع نسب الالتهابات عن النسب المتوقعة، لا سيما أن التوقعات تشير إلى أن الالتهابات ستكون السبب الأول للوفيات عالمياً بحلول عام 2050.
إمكانيات ضعيفة وأزمات عميقة
الاختصاصي في الأمراض المعدية والجرثومية، الدكتور ناجي عون، يضع إصبعه على الجرح من دون مواربة، مؤكداً أن المشكلة "ليست في الأشخاص بل في النظام الصحي ككل". نظامٌ يتلكأ في تطبيق معايير السلامة والحماية من انتقال العدوى، ولا يخضع لرقابة مشددة من قبل وزارة الصحة. ومن جهته يرى الدكتور عبد الرحمن البزري، الاختصاصي في الأمراض المعدية والجرثومية، أن المستشفيات اللبنانية تعاني من تحديات مضاعفة بسبب الأزمات الاقتصادية وضعف الإمكانيات الطبية، ما يزيد من انتشار العدوى داخل المنشآت الصحية ويجعلها أرضاً خصبة لتكاثر الباكتيريا والفيروسات وانتشار العدوى بين من يفترض أنهم في أيدٍ أمينة.
طبياً تتعدد أسباب انتشار العدوى في المستشفيات، حيث تعتبر البيئة الطبية المغلقة مثالية لانتقال الميكروبات بسبب تواجد أعداد كبيرة من المرضى، لا سيما في أقسام العناية المركزة. ويزيد استخدام الإجراءات الطبية الغازية مثل القسطرة البولية وأجهزة التنفس الاصطناعي والعمليات الجراحية من احتمالية الإصابة بالعدوى. يضاف إلى ذلك ضعف إجراءات التعقيم وعدم الالتزام بالبروتوكولات الصحية وإجراءات الوقاية مثل غسل اليدين وارتداء معدات الحماية ما يؤدي إلى انتقال الجراثيم عبر الطواقم الطبية والعاملين في المستشفى إلى المرضى. وثمة عامل خارجي لا يمكن إنكاره وهو مقاومة المضادات الحيوية الذي يؤدي بدوره إلى تطور سلالات بكتيرية مقاومة ما يزيد من صعوبة العلاج.
المشكلة لم تعد صحية وحسب يدفع ثمنها المريض بل إن تداعياتها الاقتصادية والطبية باتت مكلفة حيث يؤدي التقاط عدوى في المستشفى وفق الدكتور البزري "إلى إطالة فترة العلاج وارتفاع التكلفة العلاجية عبر علاجات باهظة الثمن أو حتى إلى حدوث مضاعفات خطرة تؤدي إلى الوفاة وبالتالي إرهاق النظام الصحي العام والتأثير على سمعة المستشفيات وإضعاف ثقة المرضى بها. ومتى انتشر تكرار حالات التقاط عدوى داخل مستشفى ما يصبح من الصعب إقناع الرأي العام بتعدد الأسباب وعدم تحمل المستشفى وحده مسؤولية هذا الأمر".
عندما تصبح المستشفيات مصدراً للعدوى
قد يظن البعض أن التقاط عدوى داخل المستشفى حالة نادرة أو استثنائية، إلا أن الحقيقة أبعد من ذلك وتحتاج إلى شرح طبي مفصل. إذ يشير د. عون إلى أن 80 % من الحالات الطارئة التي تُنقل إلى المستشفيات ناتجة عن التهابات، من الإسهال إلى التهاب الرئة والزائدة الدودية والتهاب المصران وغيرها وكلها تعكس تلاقي عوامل صحية وبيئية ومجتمعية، منها ضعف جهاز المناعة لدى المريض، انتشار الميكروبات في الهواء، التجمعات السكانية، وسوء الالتزام بمعايير النظافة.
وفي لبنان تساهم أزمات انقطاع الكهرباء، واختلاط المياه الملوثة بمياه الشرب، ورداءة البنية التحتية، في توفير بيئة مثالية لتكاثر الجراثيم والبكتيريا والفيروسات وانتقال العدوى، ليس فقط في الشوارع والمنازل، بل داخل المستشفيات أيضاً.
ما إن يدخل المريض إلى المستشفى حاملاً التهاباً حاداً، غالباً ما يكون بسبب بكتيريا مقاومة للعلاجات، حتى تبدأ دوامة معقّدة من المضاعفات وفق ما يشرح د. عون. ويكون جهازه المناعي منشغلاً في محاربة الالتهاب الأساسي، فيُصبح عاجزاً عن مقاومة جراثيم أخرى قد يلتقطها من محيطه الجديد. ففي المستشفيات، وخصوصاً أقسام الطوارئ، يتجاور مرضى يعانون من التهابات شتى، ويكفي احتكاك بسيط أو لمسة سطح ملوث أو تهوئة غير صالحة لتنتقل العدوى من مريض إلى آخر. إلى ذلك، يوضح د. عون أن تناول المضادات الحيوية غير المناسبة قد يؤدي إلى تطوّر جراثيم أكثر مقاومة تضعف مناعة المريض ويصبح أكثر عرضة لالتقاط عدوى جديدة داخل المستشفى.
كما أن بعض العدوى ينتقل عبر الهواء أو الماء، أو نتيجة سوء تعقيم الأدوات الطبية بعد العمليات. والأخطر أن بعض المرضى - خصوصاً أولئك الذين خضعوا لعلاجات بالمضادات الحيوية عبر الوريد أو يعانون أمراضاً مزمنة مثل السرطان أو السكري، يدخلون المستشفى وهم يعانون أصلاً من ضعف المناعة أو يحملون في أجسامهم سلالات من الجراثيم المقاومة، ما يجعلهم أكثر عرضة لتلقي العدوى.
الإجراءات موجودة... لكن من يطبقها؟
عالمياً، ثمة بروتوكولات صارمة لمكافحة العدوى داخل المستشفيات، تتضمن إنشاء أقسام متخصصة تضم أطباء وممرضين في "مكافحة العدوى (Infection Control)، أما المشكلة في لبنان فلا تكمن في غياب المعرفة، ومعظم المستشفيات الكبرى في لبنان تطبق بالفعل معايير الجودة العالمية، لكنها تكمن في ضعف التطبيق وغياب الرقابة. أسباب هذا التقاعس عديدة، لكن أبرزها ما بات واضحاً لدى الجميع وهو ارتفاع الكلفة وضعف الموارد، إذ أن المعقمات والمعدات الخاصة بالنظافة ليست باهظة الثمن فحسب، بل إن كلفتها لا تدفع غالباً ضمن الفاتورة التي تغطيها الجهات الضامنة أو شركات التأمين. ومع تراجع الدعم المالي للمستشفيات، باتت الأخيرة تلجأ إلى التوفير على حساب التعقيم. من هنا يقول الدكتور عون "إن المستشفيات وحدها لا تستطيع تحمّل كلفة مكافحة العدوى والإصلاح الحقيقي يتطلب شراكة بين وزارة الصحة، الجهات الضامنة، إدارات المستشفيات، والهيئات الطبية".
الغسيل والتعقيم
توجهنا إلى مستشفى سان شارل لنطلع عن كثب على البروتوكولات التي تطبقها المستشفيات في التعقيم لتجنب انتشار العدوى فيها. الممرضة المسؤولة عن مراقبة العدوى شرحت لنا كيف يتم تقسيم غرف العمليات وفق الحالات المرضية فتكون هناك غرف مخصصة لجراحات العظام وأخرى للجراحات البسيطة وثالثة للجروح المفتوحة الملتهبة. المرضى الذين يحملون التهابات قوية أو الذين أمضوا وقتاً في غرفة العناية على جهاز تنفس يتركون في العادة حتى آخر النهار بعد العمليات الجراحية الأخرى، في غرف عمليات تفصل دقائق عشر بين عملية وأخرى، ويعمل فريق التعقيم على تعقيم الغرفة وإزالة كل ما استخدم فيها. وتنقل الشراشف إلى المغسلة لتغسل في غسالة مختلفة عن تلك المستعملة لغسيل الطوابق والمرضى مع نوعية أدوية غسيل وتعقيم خاصة. بعدها تشطف غرفة العمليات وتمسح وترش الأرض والأسطح بمعقم خاص وتغسل الأدوات وتُنقع في معقمات خاصة، وتُجفف بحرارة عالية قبل حفظها في غرفة معقمة تحت إشراف المسؤول عن مراقبة العدوى. لكن هل تكفي دقائق عشر لإتمام كل هذه العملية؟
صحيح أن باب غرفة العمليات يبقى مغلقاً أثناء الجراحة مع وجود عدد محدد من الأشخاص وارتداء الجميع أقنعة وقفازات وملابس معقمة. لكن هذا لا ينفي أن يتم التقاط عدوى ما في غرفة العمليات حين يكون الجرح مفتوحاً لا سيما بوجود طلاب طب متدربين لم يعتادوا بعد على الإجراءات أو ربما أطباء أو ممرضات تهاونوا في تطبيق الإجراءات. وقد يكون المريض حاملاً التهاباً في الأساس ولم تجرَ له الفحوصات اللازمة وحين يخضع لعملية جراحية أو لوضع قسطرة تستيقظ الجرثومة الكامنة عنده. ودور المستشفى طرح الأسئلة اللازمة على كل شخص مصاب بالتهابات لمعرفة مصدرها.
المرضى المصابون بالتهابات يخضعون لبروتوكولات خاصة، تُعلّق على باب الغرفة ليعرف الجميع كيفية التعامل معهم. التنظيف يتم ثلاث مرات يومياً، وتُستخدم مصاعد مختلفة للمرضى والنفايات، حتى المكيّفات تُعقّم دورياً. أما الفضلات الطبية فتوضع في أكياس خاصة ثم في غرفة مبردة وتنقل بعدها إلى مؤسسة Arcenciel لتتم معالجتها.
في حال اكتشاف المستشفى وجود نسبة التهابات أعلى من المعتاد يدرك وجود خطأ في مكان ما، بشري أو بنيوي، لا بد من إيجاده وحله. كما يخضع كل الجسم الطبي والتمريضي لدورات تدريبية مستمرة لتوضيح طريقة العمل الصحيحة. لكن على الرغم من كل ذلك وكلما كبر المستشفى وتلقى المزيد من الحالات الصعبة والالتهابات القوية تزايدت فيه إمكانية نقل العدوى.
رقابة متشددة وتحدٍ متزايد
وزارة الصحة ينبغي أن تكون المرجع الذي يتحمل مسؤولية ضبط العدوى، عبر مراقبة تطبيق المستشفيات للبروتوكولات، لا سيما في الطوارئ وغرف العمليات. وعليها تتبّع نسب العدوى، ومقارنتها بالمعايير العالمية، ومنع استخدام المضادات الحيوية العشوائي لتجنّب نشوء سلالات مقاومة. ويوصي الأطباء بتخفيف الاكتظاظ داخل المستشفيات. في هذا الإطار يدعو الدكتور عون الوزارة للاهتمام بتمويل مستلزمات التعقيم كما تفعل مع أدوية الأمراض المزمنة، لأن الوقاية تُخفف كلفة العلاج لاحقاً. ويشدد على "أهمية فرض عقوبات على المؤسسات التي تستهتر بسلامة المرضى".
في الغرب، تُلزم المستشفيات بتوثيق نسب العدوى ومحاسبة المقصّرين. أما في لبنان، فلا توجد جهة رسمية تجمع الإحصاءات، ما يُصعّب المقارنة بين المستشفيات. مع ذلك، يرفض الأطباء القول إن الوضع اللبناني أسوأ مقارنة بالوضع العالمي بل يشيرون إلى قدرة المستشفيات على السيطرة رغم التحديات. فمنذ عام 2019، عانت المستشفيات من نقص في المعدات والتجهيزات، وبعضها لا يزال يعاني حتى اليوم. كما أن قدم الأجهزة وارتفاع كلفة صيانتها يدفعان ببعضها إلى التساهل في تطبيق المعايير، ما يُبقي المريض في دائرة الخطر.