ماذا لو كان "ناصر" حيّاً؟ - بقلم د. بلال عقل الصنديد
شارك هذا الخبر
Monday, May 12, 2025
عادت مؤخراً شخصية الزعيم العربي جمال عبد الناصر إلى الواجهة، عبر تسريبات صوتية لحوار دار بينه وبين الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي يكشف فيه عن موقف غير معهود تجاه العلاقة مع العدو الصهيوني بعد هزيمة 1967، تحت عنوان "الحل السياسي".
تأتي هذه التسريبات في لحظة إقليمية بالغة الحساسية ؛ فالضغط العسكري على كل من غزة والضفة وسورية ولبنان، يترافق مع حراك سياسي تقوده الولايات المتحدة من "تل أبيب" إلى "طهران"، مروراً بعدة عواصم إقليمية، ضمن مسار يرمي إلى إعادة رسم الخارطة السياسية، وربما الجغرافية، في المنطقة.
من هذا المنظور، لا تبدو العودة إلى أرشيف عبد الناصر مجرّد تسريب إعلامي، بل إنها ترتبط بمسار سياسي يتمحور حول "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي تبنّتها إدارة الرئيس ترامب كبديل استراتيجي للمفاوضات التقليدية التي فشلت في تحقيق سلام دائم، وللخيارات العسكرية التي أثبتت محدودية نتائجها بنظر واشنطن.
هذا التسريب المفاجئ أزاح الستار عن تأويلات متباينة في مغزاها ومداها: فهل كان عبد الناصر يستعد لانعطافة سياسية كبرى؟ أم أن ما قيل لا يعدو عن كونه مناورة محنكة في ظل ميزان قوى مختل لغير صالح العرب ومصر؟ التحليلات انقسمت بين اتجاهين: الأول منهما يرى أن قبول عبد الناصر بمبادرة "روجرز" عام 1970 -الهادفة إلى تهدئة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التزام الأطراف بوقف إطلاق النار- لم يكن مقدمة للتطبيع، بل كان غطاءً لهدنة مؤقتة تتيح إعادة ترتيب القدرات الدفاعية المصرية، في حين يؤكد الاتجاه الثاني أن زعيم الكفاح المسلّح أصبح بعد هزيمة 1967 أكثر واقعية، ولم يعد يمانع الانفتاح على تسويات مشروطة تهدف إلى استعادة الأراضي المحتلة، حتى لو تطلّب الأمر الدخول في تحالفات غير تقليدية أو تقديم تنازلات محدودة.
في هذا المخاض التاريخي المزدحم بالأسئلة، وفي ظل حالة وهن غير مسبوقة نعيشها اليوم، تبدو المفاضلة بين القومية والواقعية أشبه بامتحان مصيري لوعينا الجماعي، لا مجرّد خيار فكري ؛ فإما أن نقرأ اللحظة بعينٍ تستحضر تجارب الماضي وتستلهم دروسها من دون أن نرتهن لعواطفها، وإما أن نستسلم لواقعية مبتورة تُفرض علينا من الخارج تحت مسميات السلام الزائف والمصالح المشكوك في استدامتها.
لا شك أن مناصري الواقعية السياسية في تزايد مستمر، مدفوعين بمعطيات مرحلة مرهقة في تاريخنا الصعب، حيث لم يعد بوسع الشعوب أن تراهن أكثر على ذاكرة القرن الماضي، ولا على أيديولوجيات أو شعارات لم تحمِها من الرصاص ولم تردّ عنها الصواريخ. بالمقابل، يُظهر استمرار الغطرسة الصهيونية أن "الاتفاقيات الإبراهيمية" لن تفضي إلى سلام عادل أو متوازن، بل هي تمثل مشروعاً أميركياً بلبوس يهودي، هدفه إعادة ترتيب أوراق المنطقة انطلاقاً من مقاربات أمنية ومصالح تجارية، وسط تشكيك مشروع ودائم في نوايا العدو وأطماعه التي لا تعرف سقفاً.
وبالمناسبة قادني الفضول السياسي الى سؤال أحد "الناصريين" القدامى والمتشبعين بالفكر القومي عن موقفه من التسريب ومضمونه اللافت، فكان جوابه لافتاً أكثر ومثيراً للانتباه، حيث أكد أنه مؤيد تماماً لما ورد على لسان الرئيس عبدالناصر، وذلك لدواعي عقائدية حيث أن ما يقوله "الزعيم" هو صحيح بشكل مطلق، ولأسباب تتصل بالقراءة الواقعية لحاضرنا.
خلاصة ما استشفيته : لو كان "ناصر" بيننا اليوم، لربما لجأ إلى مرونة تكتيكية، لا تمس الثوابت الاستراتيجية في قضايا المنطقة، وتمرّ عبر مسار صعب ومليء بالتحديات، يجمع بين الثبات على المبادئ القومية والوطنية من جهة، وواقعية لا تقبل التفريط بالحقوق أو شرف التضحيات من جهة أخرى. كل ذلك في محاولة لبلوغ نتائج أقل مرارة من واقعنا، وإن كان الثمن باهظاً، والمستقبل غامضاً، والحصاد دون المراد.
المستشار القانوني والكاتب السياسي د. بلال عقل الصنديد.