لحظةٌ استراتيجية: تحديات الكنيسة الكاثوليكية في عالم ما بعد البابا فرنسيس -بقلم شربل عبدالله انطون
شارك هذا الخبر
Tuesday, April 29, 2025
شكّلت وفاة البابا فرنسيس نهاية حقبةٍ بابويةٍ اتسمت بالرحمة والتواضع والمحبة، والجرأة في مواجهة التحديات العميقة الجذور داخل الكنيسة الكاثوليكية. وبينما يجتمع مجمع الكرادلة لانتخاب بابا جديد، تجد الكنيسة نفسها عند مفترق طرق تاريخي. على قائدها القادم أن يشق طريقه في عالمٍ يسوده الغموض الأخلاقي، وتنامي العلمانية، والأزمات العالمية، وأن يُداوي جراح الكنيسة نفسها. التحديات هائلة - داخلية وخارجية - وكيفية استجابة الكنيسة لها لن تُشكل مستقبلها فحسب، بل النسيج الأخلاقي للمجتمع العالمي أيضاً. التحديات الداخلية: ظلالٌ داخل الكنيسة لعلّ أزمة الاعتداءات الجنسية هي القضية الداخلية الأكثر إيلاماً وإلحاحاً التي تواجهها الكنيسة. فقد أضرّ جداً بشدة بمصداقية الكنيسة التستر المنهجي للسلطة الكنسية على اعتداءات الكهنة بعد عقود على كشفها من قبل الناس. وقد اتخذ البابا فرنسيس خطواتٍ مهمة نحو الشفافية والمساءلة، خطوات عملية متقدمة على إجراءات سلفه بنديكتوس المحافظ. إلا أن المنتقدين يجادلون بأن العديد من الجهود لا تزال غير كافية. يجب على البابا القادم تعميق الإصلاحات، وتطبيق سياسات عدم التسامح مطلقاً، وإعطاء الأولوية لشفاء الضحايا على مسألة حماية المؤسسة. يرتبط بهذا ارتباطًا وثيقاً تحدّي الفساد داخل المؤسسات المالية للكنيسة نفسها. فقد أدت الفضائح المحيطة ببنك الفاتيكان، وصفقات العقارات المشبوهة، والاختلاسات إلى تآكل ثقة المؤمنين. ورغم سعي البابا فرنسيس إلى تحقيق مزيد من الشفافية والرقابة، إلا أن المصالح الراسخة قاومت التغيير. وسيحتاج البابا القادم إلى مواصلة هذه المعركة بعزيمة واستقلالية أكبر. لا تزال قضية زواج المثليين وإدماج مجتمع الميم مثيرةً للانقسام داخل الكنيسة. عِلماً أن البابا فرنسيس لم يتحدث عن مباركة أو تشريع زواج المثليين كما اتهمه البعض عن خطأ. كان نهج البابا فرنسيس رعوياً، ومقولته الشهيرة: "من أنا لأحكم؟" العبارة التي لاقت صدى لدى الكثيرين، لكنها أثارت قلق التقليديين. سيحتاج البابا الجديد إلى الموازنة بعناية بين العقيدة والرحمة، مستجيباً لعالمٍ يتزايد فيه الطلب على الإدماج دون إغضاب القاعدة المحافظة للكنيسة أو المس بمسلماتها. قلب الكنيسة الكاثوليكية يتسع لكل بناتها وأبنائها، وعليها استيعاب الجميع دون التضحية بعقائدها. علاوة على ذلك، لا تزال التساؤلات حول دور المرأة في الكنيسة تطفو على السطح. من الدعوات إلى رسامة النساء إلى تعزيز مشاركتهن في مناصب صنع القرار، هذا نقاشٌ لن يخبو. فالكنيسة العالمية لا يُمكنها أن تُهمّش نصف البشرية. البابا فرنسيس كان سباقاً في تمكين المرأة، والاستفادة من ديناميتها في دوائر الفاتيكان. من مساهمات فرنسيس اللافتة جداً هي تعيين الأخت سيمونا برامبيلا، كرئيسة لدائرة الحياة المكرسة، واللافت أن نائبها كردينالا. التحديات الخارجية في عالم مضطرب إلى جانب صراعاتها الداخلية، تواجه الكنيسة الكاثوليكية ضغوطًا خارجية هائلة. في عصر الحروب والاستقطاب السياسي، يكتسب صوت الكنيسة كصانع أخلاقي للسلام أهمية بالغة أكثر من أي وقت مضى. من أوكرانيا إلى غزة، تُعدّ الحاجة إلى دعوات غير حزبية (وغير متورطة في الحروب) للسلام والدفاع عن الكرامة الإنسانية أمراً مُلحاً. إن حضور الكنيسة العالمي يمنحها منصة فريدة للدفاع عن الدبلوماسية والعدالة والمصالحة. لا يزال الفقر والمرض آفاتٍ مستشرية في أنحاء كثيرة من العالم. ولا تزال البعثات والجمعيات الخيرية الكاثوليكية تُشكّل شريان حياة للملايين، ومع ذلك، يجب على الكنيسة أن تتجاوز مجرد العمل الخيري لتدعو إلى تغيير منهجي، لا سيما في مكافحة عدم المساواة، وتعزيز التعليم، والدفاع عن حقوق المهمّشين في كل العالم. هناك جبهة أخرى ملحة تتمثل في أزمة المناخ. كانت رسالة البابا فرنسيس العامة "كن مُسبحًا" بمثابة دعوة واضحة للمحافظة على البيئة، حيث ربطت بين رعاية الكوكب ورعاية الفقراء، واضعةً تغير المناخ كقضية أخلاقية. سيحتاج البابا القادم إلى مواصلة هذا الإرث، دافعاً الكنيسة وقادة العالم على حد سواء نحو ممارسات بيئية مستدامة وعادلة. الانتقال البابوي: اختيار راعٍ للعصر إن وفاة البابا تدعو دائماً إلى الحزن والتأمل. إنها لحظة مقدسة في حياة الكنيسة، ولكنها أيضاً لحظة استراتيجية. إن مهمة المجمع الذي سيجتمع قريباً ليست مجرد اختيار قائد روحي؛ بل اختيار مسار للكنيسة نفسها. هل سيكون البابا القادم مُصلحاً يبني على إرث فرنسيس، أم تقليدياً يُكبح جماح التغيير؟ يأتي قرار الكرادلة في وقت يراقب فيه العالم، وليس الكاثوليك فقط انتخاب البابا الجديد. ويسعى الكثيرون إلى الوضوح الأخلاقي وصوت الضمير في عالم يزداد فوضى. وتظل الكنيسة الكاثوليكية، بانتشارها العالمي، وأتباعها الذين يتجاوز عددهم ملياراً ونصف المليار، واحدة من المؤسسات القليلة التي تتمتع بالقدرة على تقديم مثل هذا الصوت. ولكن فقط إذا كانت مستعدة لمواجهة تحدياتها، وتبنّي التجديد، والقيادة بشجاعة. كنيسةٌ أمام خيار تقف الكنيسة الكاثوليكية عند مفترق طرق - ليس مفترق طرق الانحدار، بل مفترق طرق الفرص. تُعدّ وفاة البابا فرنسيس لحظةً عميقةً من الخسارة، ولكنها أيضاً دعوةٌ للعمل. التحديات هائلة، لكنها ليست مستعصية على الحل. بقيادةٍ جريئة، وتأملٍ صادق، والتزامٍ متجددٍ بالعدالة والمحبة والرحمة، يمكن للكنيسة أن تُصبح من جديد منارةً للأمل في عالمٍ مُمزّق. الطريق إلى الأمام صعب، لكن العالم بحاجةٍ إلى الكنيسة الكاثوليكية لتسلكه.