المطرودون من "الحرة": صدمة إنسانية تتخطى القرار الإداريّ

  • شارك هذا الخبر
Sunday, April 27, 2025

"كنت أنتظر تقديراً لا طرداً". بهذه الكلمات، تعبر الزميلة سحر أرناؤوط عن صدمتها وحسرتها جراء تلقيها قراراً بفضلها من قناة "الحرة"، بعد 21 عاماً من العمل في القناة. تقول: "لم يكن القرار إدارياً فحسب، بل صدمة إنسانية"، إذ "لم نتلقّ أي تعويضات، وكأننا لم نكن شيئًا".
وتلقى عشرات الموظفين في القناة إشعاراً بفصلهم والاستغناء عن خدماتهم قبل اسبوعين، ضمن خطة إعادة الهيكلة التي أطلقتها "الوكالة الأميركية للإعلام العالمي" (U.S.A.G.M.)، ولم يبقَ في قناة "الحرة" وموقعها الالكتروني الآن، إلا القليل، بينهم 30 موظفاً في سبرينغفيلد، في واحدة من أكبر النكسات الإعلامية المعاصرة.
والواقع أن قرارات الطرد، تحمل في جوانبها حسرات، إذ يحمل كل من الموظفين حكاية مستقلة له مع "الحرة"، تحيط بها جوانب إنسانية، وشعر خلالها الموظفون بالانتماء.

سحر أرناؤوط
ولسحر أرناؤوط، التي بدأت رحلتها الإعلامية مع "الحرّة" منذ انطلاقتها الأولى، تروي لـ"المدن" بمرارة قصتها مع القناة. تقول: "كانت بدايتي الفعلية في 14 كانون الثاني / يناير 2004، حين قدمت أول تقرير لي على الهواء، ضمن أول نشرة وأول برومو لقناة 'الحرّة'، ومن تلك اللحظة بدأت رحلتي الطويلة معها".
وتشير إلى أن الانتقال من الإعلام المحلي إلى العمل في قناة أميركية بمعايير عالية لم يكن سهلاً، لكنه شكّل تحدياً مهنياً هاماً. تضيف: "رغم خبرتي السابقة كمراسلة لسلطنة عمان، فإن العمل في 'الحرّة' كان مختلفاً تماماً، خصوصاً مع الورش المكثفة التي خضعنا لها في واشنطن، تحت إشراف جامعات مرموقة وإعلاميين عالميين من قنوات مثل 'الجزيرة إنغليش' و'بي بي سي'".
هذا الاحتكاك، كما تقول، غيّرها مهنياً بالكامل، ورفع من أدائها. وحين وصلت الى بيروت، اكتشفت أن الملف اللبناني له تحديات إضافية، خصوصاً في التوازن بين المهنية ونقل الحقيقة. تقول: "كنت أتنقل في كل المناطق اللبنانية من دون انحياز، حتى خلال حرب تموز، حيث بقينا نغطي الجميع، من دون استثناء".

من حرب تموز إلى "الإسناد"
شاركت سحر في تغطية التطورات الساخنة، من حرب تموز 2006 إلى حرب الإسناد. تقول: "أهم محطة كانت تغطيتي في سوريا عامي 2011-2012، وخصوصاً في حمص. عشنا لحظات خطرة داخل مناطق مشتعلة وخرجنا بأعجوبة". كما تذكر تغطياتها لمعركة فجر الجرود، أحداث نهر البارد، سبعة أيار، وانتفاضة 2019، وتضيف: "كل هذه المحطات شكّلت مساري المهني، وعلّمتني أن الإنسان والمعلومة الدقيقة هما الأولوية".
ومع التوترات الإقليمية الأخيرة، "عُدت إلى الميدان في تغطية الحرب على حزب الله"، معتبرة أن "المعركة لم تكن فقط عسكرية، بل إعلامية أيضاً، وكان عليّ أن أتعامل معها بميزان دقيق".

نهاية الرحلة
لكن نهاية الرحلة، لم تكن كما توقعت أرناؤوط، إذ تفاجأت بقرار إنهاء خدماتها بعد 21 عاماً برسالة إلكترونية. وتختم حديثها بكلمات مؤثرة: "هذه ليست مجرد وظيفة، كانت حياتي. وما زلت حتى اليوم أتحقق من بريدي، وكأنني ما زلت ضمن الفريق. يصعب عليّ الحديث عن 'الحرّة' بصيغة الماضي".

وفاء جباعي
وقصة أرناؤوط، تتشاركها مع عشرات الموظفين الآخرين، بينهم وفاء جباعي، مراسلة "الحرّة" في البنتاغون. تقول لـ"المدن": "عملت في قناة الحرة في مرحلتين، المرحلة الاولى امتدّت منذ العام 2004 و حتى 2008 و المرحلة الثانية من 2019 إلى الحادي عشر من نيسان / أبريل الحالي حين تم صرفي بشكل تعسفي مع نحو خمسمائة من زملائي من دون دفع مستحقاتنا القانونية المتمثلة بتعويض نهاية الخدمة والاجازات السنوية".
تشير جباعي إلى أن "الصرف كان بحجة عدم وجود التمويل، وامتنعت الادارة عن الالتزام بدفع مستحقاتنا حتى في حال حصولها في المستقبل على التمويل الذي كان الكونغرس اقره وأوقفته مستشارة الرئيس ترامب كاري لايك والتي كلفها بمتابعة عمل الوكالة الاميركية للإعلام الدولي USAGM".



وتنتقد جباعي قرار القناة بالاستمرار في البث، قائلة: "الرئيس التنفيذي للقناة جيف غيدمان اتخذ القرار بالاستمرار في البث، وكان بالإمكان ان يوقف البث كما فعلت راديو أوروبا الحرة وصوت اميركا، وبالتالي يصرف مستحقات الموظفين مع المضي قدماً بالمسار القانوني ورفع دعوى قضائية".
وتشير الى أنه "إضافة إلى المستحقات المالية، هناك عشرات الموظفين الذين باتوا مضطرين إلى مغادرة الأراضي الاميركية في غضون ثلاثين يوماً من موعد الصرف لاسباب تتعلق بوضعهم القانوني (ما يسمى ب J 1)".

حكاية إقفال الحرة
منذ اللحظة التي انتُخب فيها دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بدأت ملامح أزمة جديدة تتشكل داخل أروقة الإعلام الدولي الأميركي. ضمن سلسلة تعيينات مثيرة للجدل، اختار ترامب الصحافية السابقة والوجه البارز في حملته، كاري ليك، لتتولى رئاسة الوكالة الأميركية للإعلام العالمي (U.S.A.G.M.)، وهي الهيئة التي تُشرف على مؤسسات الإعلام الخارجي للولايات المتحدة.
وحسب مصادر "المدن"، بدأت ليك فوراً بإطلاق خطة لإعادة هيكلة الوكالة، تمثلت في دمج جميع المؤسسات الإعلامية تحت مظلة واحدة، في عملية أطلقت عليها اسم "streamlining". وشمل الدمج "راديو أوروبا الحرة" (Radio Free Europe)، و"راديو آسيا الحرة" (Radio Free Asia)، و"صوت أميركا" (Voice of America)، و"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN)، التي تشمل قناة "الحرّة"، وراديو وتلفزيون كوبا"، وOTF.

وقف التمويل
وأصبحت كاري ليك مسؤولة مباشرة عن هذه المؤسسات الست، وأعلنت صراحة نيتها وقف تمويلها، ما أثار مخاوف داخلية من انهيار هذه المنظومة الإعلامية بأكملها. ومع اقتراب الخامس عشر من آذار/ مارس، الموعد الحاسم لتصويت الكونغرس الأميركي على الميزانية قبل الدخول في إغلاق حكومي، أصر النواب على تمرير قرار بتمديد التمويل حتى نهاية السنة المالية (أيلول / سبتمبر 2025)، ما يعنى تأمين استمرارية التمويل لكافة الوكالات التابعة لـU.S.A.G.M، بما في ذلك "صوت أميركا" و"الحرّة".
وحسب القانون الأميركي، لا يمكن لأي جهة تنفيذية، بما فيها الرئيس، أن تعارض تنفيذ ميزانية تم التصويت عليها من قِبل الكونغرس. لكن، وعلى الرغم من هذا القرار، رفضت كاري ليك تحويل الأموال، وهو ما أحدث أزمة خانقة داخل المؤسسات الإعلامية، ودفع شبكة "الحرّة" إلى اتخاذ خطوة قاسية، أهمها وضع الموظفين في إجازة غير مدفوعة الأجر، بانتظار البت في دعوى قانونية. ولاحقاً، عاد الموظفون إلى أعمالهم مؤقتاً بعد رفع الدعوى، لكن الأزمة لم تُحل. بل على العكس، انتهت بفصل جماعي لنحو 450 موظفاً، ما فتح الباب أمام تساؤلات ملحّة عن خلفيات هذا القرار المفاجئ.

قرار الفصل.. نية مبيتة أم ضرورة قاهرة؟
مصادر "المدن" من داخل الشبكة، كشفت أن هناك انقساماً في التفسيرات: فريق يرى أن المدير العام كان يمتلك نية مسبقة لتقليص عدد الموظفين بشكل دائم ضمن خطة داخلية. بينما يذهب آخرون إلى أن القرار كان إكراهياً نتيجة غياب التمويل.
وبالنسبة للموظفين، فقد انقسموا إلى ثلاث فئات:
من يحملون الجنسية الأميركية، وهم في وضع قانوني مستقر.
من يحملون البطاقة الخضراء (Green Card)، وهم ينتظرون الحصول على الجنسية، ولا يواجهون خطراً مباشراً.
أما الفئة الثالثة، فهم من يعملون بتأشيرات مؤقتة، وهؤلاء في وضع قانوني هش ومعقّد.
هذه الفئة الثالثة كانت تسعى للحصول على الإقامة الدائمة من خلال تقديم طلبات تحويل الحالة، ولكن بسبب تأخيرات كبيرة في معالجة الطلبات، علقت ملفاتهم. ويعود سبب هذه التأخيرات، حسب المتضررين، إلى السياسات البيروقراطية المعقدة التي اعتمدتها إدارة جو بايدن، والتي فاقمت من مشاكل النظام الإداري للهجرة.

وهنا يتكرر سؤال ملحّ:
"كيف يمكن الخروج من البلد في ظل هذه التعقيدات التي خلقتها الإدارة الحالية؟" فقد أصبح من شبه المستحيل على البعض اتخاذ قرارات مستقبلية، سواء بالبقاء أو المغادرة، بسبب غياب أي وضوح في الإجراءات، أو حلول عملية في الأفق.
اليوم، لم يتبقَ في المكتب الرئيسي لشبكة "الحرّة" في سبرينغفيلد سوى 30 موظفاً فقط، بينما البقية، إما غادروا أو عالقون في الانتظار بلا حماية قانونية ولا مصدر دخل.

راغب ملي- المدن