مَن يُجيزُ للموازنةِ اختصارَ التشريع!؟... د. نجم بو فاضل

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, March 2, 2021


ينصّ الدستور اللبنانيّ في المادة 83 المندرجة في الباب الرابع (ب) تحت عنوان "في الماليّة"، على أن "الحكومة تقدّم لمجلس النواب، كلّ سنة في بدء عقد تشرين الأوّل، موازنةً شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة...". وهي مادّةٌ محصورةُ الكلام في إشارةٍ واضحةٍ إلى أن الموازنة لا تُعنى إلّا بالشأن الماليّ، والمرتبط حصرًا بالسنة الماليّة التي تلي إقرار الموازنة، التي لا يجوز نشرها إلّا بعد أن تُعرض على المجلس حساباتُ الإدارة الماليّة النهائيّة لكلّ سنة ليوافق عليها (المادة 87). لكن الموازنات التي أُقِرَّت في السنوات الأخيرة (بعد طول انقطاع)، دأبت على الشطط خارج أحكام الدستور، فراحت تدسّ في قوانينها نصوصًا، تخرج بها عن صلاحيّاتها، ذلك أنها تُعدّل بموجب تلك النصوص قوانين أخرى عاديّةً، في مخالفة صريحة لأحكام الدستور وأصول التشريع، على حدّ ما جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 2018/2، تاريخ 14/5/2018، الذي قضى بإبطال تلك المواد من موازنة العام 2018 المطعون بها.
لكن السلطة التي بَرَعَت في لعبة القضم والضمّ، وأبدعت في سلب الحقوق واغتنامها، وتفوّقت في التهام المكتسبات التي تصبَّبَ جبينُ المناضلين عرقًا لتحصيلها، لا تتورّع عن الارتكابات، ولا ترتدع عن المخادعات، ولا تمتنع عن التحايلات. فتُمعِن في تقديم موازنةٍ لا يقتصر الارتكاب فيها على مخالفة الدستور وأصول التشريع، إنما يصل الأمر بها إلى تهشيم وجه الدولة، وضرب النظام الاجتماعيّ، وقهر الطبقات الوسطى وتفقيرها... فموازنة العام 2021، بدل أن تتستّر حياءً أنها تأتي متأخّرةً، وفي زمن التقهقر الذي أصاب خزائن الدولة الماديّة والبشريّة، تطلّ برأسها الوقح لتنهش مجّانًا ما تبقّى من لحم هذه الدولة وعظامها. وذلك بخرق أحكام الدستور، وانتهاك أصول التشريع، والاعتداء على سائر القوانين، واختزال الأعمال التشريعيّة...
لن أستفيض هنا في تعداد المخالفات التي ترتكبها موازنة العام 2021 وتفنيدها (وهي لا تنطوي على شوائب دستوريّة وقانونيّة وحسب، إنما يعتريها خلل في المنطق الذي ينبغي أن يُبنى به التصوّر الكلّي للإصلاح...)، بل سأكتفي بتسليط الضوء على الإخلال بمبدأ السنويّة واعتماد الاختصار سبيلًا لتمريرِ إصلاحٍ مزعوم. فالمادة الثالثة من قانون المحاسبة العموميّة حدّدت الموازنةَ على أنها "صكّ تشريعيّ تُقدَّر فيه نفقاتُ الدولة ووارداتُها عن سنة مقبلة، وتُجاز بموجبه الجباية والانفاق". ما يعني أن المدّة التي توضع الموازنة لأجلها وتُنفَّذ فيها هي سنةٌ واحدةٌ، تكون فيها الأرقام التقديريّة الواردة في صكّ الموازنة قابلةً للتنفيذ خلال السنة المعيّنة. وعلى الرغم من أن الاجتهادَ الدستوريَّ قد أجاز إقرار بعض المشاريع التي يتطلّب تنفيذُها وإنجازُها أكثر من المدّة المحدّدة للموازنة، وهي سنة، لا يستطيع هذا الاستثناءُ لمبدأ السنويّة أن يتّخذ صفة الشموليّة والإطلاق، فيُطَبَّق يمنةً ويسرةً على كلّ ما طاب للمشترع وسهُل. فمعظم المواد المتفرّقة المندرجة في الباب الرابع، مثلًا، لا تمتّ إلى الموازنة السنويّة، لا من قريب ولا من بعيد، بصلة، إنما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمختلف القوانين الخاصّة التي ترعى مختلف البنى الاجتماعيّة، التي لها صفة الديمومة (خصوصًا المواد 93، 98، 99، 100، 102، 103، 105، 106، 107، 108، 109).
أما العيب الثاني الذي توصَمُ به هذه الموازنة فيتمثّل بالاختصار الذي تعتمده وتتعمّد استخدامَه، متستّرةً بما للمال من قوّةٍ في السلطة، ومكانةٍ في الاجتماع، ورهبةٍ في النفوس... فتدسّ بين بنودها نصوصًا تختصر ما تستفيض به مختلف القوانين الخاصّة، وتختصر في ذاتها الوظيفةَ المعقودةَ على العمليّة التشريعيّة التي ينبغي لها أن تُمعِن النظرَ باستمرار في القوانين السائدة، بغية تعديلها تحديثًا وتطويرًا وتجويدًا... فمعظمُ المواد المُدرجة، مثلًا، في الباب الرابع (86، 87، 94، 97، 98، 100، 105، 106، 107، 108، 109، 110)، تحمل العنوان: "تعديل بند من المرسوم الاشتراعي...، تعديل مادة من القانون...، إلغاء مادّة من القانون...، تعديل فقرة من القانون..."، وتبدأ بعبارة "خلافًا لأي نصّ آخر" في اعتداء صريح على النصوص الأُخَر التي تتألّفُ منها قوانينٌ أُخرَ. وإذا كانت الموازنة تتغافل، عمدًا أو عفوًا، عن الحدود الموضوعة لها، فتستنسب وتجيز لنفسها هذا الاختصار المزدوج، فإن المجلس التشريعيّ لا يرتضي بهذا الانتهاك ولا يسمح به، ذلك أن استقامة التشريع لا تُجيزه، والمنطق الذي يحكم عمليّة التشريع لا تجيزه، والحقوق التي يُفترض أن يتمتّع بها كلّ مواطن لا تجيزه. وعليه، ينبغي للموازنة أن تعود إلى ذاتها، كي تؤدّي الدور المنوط بها في الدستور وفي قانون المحاسبة العموميّة.
نجم بو فاضل – أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة