الحملة على عبدالنّاصر: استهداف لمصر ودورها - بقلم رضوان السيد
شارك هذا الخبر
Tuesday, May 6, 2025
هجمت وسائل إعلاميّة عديدة على حدثٍ يقال إنّه جرى اكتشافه من أواخر الستّينيات، وهو يعني قبول عبدالناصر لمبادرة “روجرز”. والمقالة تدرس هذا الاحتمال وتعتبره زائفاً، فقبول عبدالناصر للمبادرة كان علنيّاً وواضحاً. أمّا الخبر السيّار هذا فهدفه الإساءة إلى عبدالناصر الذي استسلم(!)، وأمّا حماس فلم تستسلم. لا اكتشاف ولا مَنْ يكتشفون، وإنّما القصد الإساءة إلى صورة عبدالناصر، وإلى دور مصر الحاليّ.
استغربت في الأيّام الماضية خبر “الاكتشاف” الفظيع عن جمال عبدالناصر، وأنّه كان مؤيّداً لمبادرة “روجرز” (وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز 1968-1969)، فقد كنّا طلّاباً بالجامعة بمصر وعرفنا من الصحف المصرية عن المبادرة، وبعد حوالى أسبوعين انطلقت حملة في الصحافة المصريّة على اليسار الطفوليّ، وعلى الجهات الرسمية العربية التي تزعم تشكيل جبهة رفضٍ للحلول الاستسلاميّة، وهم مثل رصفائهم من دعاة اليسار والبعث ليسوا أهل حربٍ أو سلام، بل هم أفواهٌ كبيرةٌ وهمم صغيرة، ومصر لا تأبه لهؤلاء الصغار والزعانف، وتقرّر سياساتها بنفسها، لا بالأيديولوجيات والدعاوى القادمة من الشرق أو الغرب.
بعد الحملة المصرية على اليساريّين والبعثيّين والغمز من قناة حكّام سورية (أيّام صلاح جديد) وحكّام العراق (في بداية عهد البكر وصدّام) حملت الصحف اللبنانية الموالية لعبدالناصر على المتنكّرين للسياسات الواقعية للرئيس القائد، وعرفنا من الصحف اللبنانية التي كانت الصحف المصرية تنقل مقالاتها أنّ الساخطين على قبول عبدالناصر لمبادرة “روجرز” هم من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، وأنّه حصل انشقاق في حزب البعث يؤيّد السياسات الواقعية للرئيس المصري.
استبدال الحلفاء
وقد فهمنا من مقالتين لمحمد حسنين هيكل أنّ ألم الرئيس من الكلام العشوائي والخطابي لا يعود لتأثيره على الساحة العربية فهو بدون تأثير. لكنّ الألم يأتي من أنّ هؤلاء كانوا يزعمون أنّهم أصدقاء مصر وكانوا يحظون بمساعدتها. لكنّهم أصغوا فيما يبدو للهمسات الخارجية وللأهواء والصراعات في الحرب الباردة. وفي مقالة هيكل الثانية لكلام يشبه إلى حدٍّ بعيد الكلام الذي ظهر في حديث عبدالناصر مع العقيد معمّر القذّافي الذي يبدو أنّه كان أيضاً من المعترضين. والكلام الدفاعيّ هو: إقرار مبدأ التفاوض لا يعني تجاهل مبدأ الحقّ في استعادة الأرض بأيّ شكل، والأمر الثاني أنّه إذا وصل الأمر إلى التفاوض بالفعل، فلن تتجاهل مصر الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأمّا الأمر الثالث فهو أنّ مصر تحتاج إلى وقت لإعادة بناء الجيش، ولذلك هي محتاجة إلى هدنة لن يمنحها إيّاها الإسرائيليون، وهم الذين سيرفضون مبادرة “روجزر” من أجل الاستمرار في العدوان، فلماذا لا تنتهز مصر الفرصة، وبخاصّةٍ أنّها تأتي من جانب الولايات المتّحدة القوّة العظمى في العالم.
كان اليساريون من الفلسطينيين واللبنانيين يأتون إلى القاهرة كلّ عدّة أشهرٍ منذ عام 1965، وقد اشتُهر أنّ اليساريّ اللبناني محسن إبراهيم كان ذا حظوةٍ عند عبدالناصر. فلمّا حصلت الواقعة وبادر اليساريون عبدالناصر بالهجوم، توقّف الرئيس عن استقبالهم باستثناء مرّةٍ واحدةٍ استقبل فيها محسن إبراهيم الذي أُوفد لإيضاح الموقف للزعيم، لكنّه لم ينجح. وحصل بعدها أمر غريب بشكلٍ مفاجئ. فقد استقبل الرئيس وفداً من حركة فتح التي ما أقبل عليها المصريون طوال سنوات، بسبب الأصول الإخوانيّة لبعض المؤسّسين. وهكذا بسبب مواقف اليسار، وهو قسمان سوفيتي ومن اليسار الجديد، أو بعثيّ متياسر، جرى استبدال الحلفاء أواخر أيّام عبدالناصر، وظلّت “فتح” أيّام السادات ثمّ مبارك هي الجهة المفضّلة حتّى أوسلو عام 1993.
كلّ هذا ما كان سرّاً، منذ مطلع السبعينيّات حتّى وفاة عبدالناصر وهو يحاول التوسّط بين الأردن والفلسطينيين لإخماد الصراع المسلّح بين الطرفين. ولذلك فاجأتني مزاعم اكتشاف استسلاميّة عبدالناصر، وهي فترة قصيرة اعتبرها عبدالناصر فرصة لإعادة بناء الجيش، وانتهت خلال أقلّ من ثلاثة أشهر، لأنّ إسرائيل المعتزّة بانتصارها الأسطوريّ ما وافقت على مبادرة “روجرز”، لأنّها كانت تعني هدنةً يستفيد منها المصريون في الترميم الذي لا تريده إسرائيل.
تعذيب النّفس
إذاً موقف عبدالنّاصر من مبادرة “روجرز” كان معروفاً بتفاصيله منذ عام 1969. ولذلك أذهلني سوء النيّة أو سوء التقدير الذي بدا في الأحاديث التلفزيونية عن الكشف المزعوم! من الذي يستفيد من هذا الاختراع الاكتشافيّ؟ إسرائيل و”حماس” والذين لا يعجبهم الدور المصري الحالي في التوسّط وطرح المشروع البديل للمذبحة الإسرائيلية ولحكم “حماس” لغزّة، وهو المشروع الذي تدعمه الدول العربية والإسلامية.
لقد أخطأ الذين وقعوا في فخّ اكتشاف استسلام عبدالناصر، كما أخطأ الباحثون المصريون الذين شاركوا في الحلقات التلفزيونية والحوارات الصحافية بالإصرار على النفي المطلق تنزيهاً للزعيم، في حين ذهب فريقٌ آخر إلى أنّ عبدالناصر كان يضحك على الأميركيين وإسرائيل.
بعد حرب غزّة، وهي أسوأ الحروب وأكثرها دمويّة، لسنا بحاجة إلى المزيد من تعذيب النفس باكتشافاتٍ عن عبدالناصر وغير عبدالناصر. لندع المتوفَّين من رجالاتنا قبل عقودٍ ولا حاجة إلى نبش قبورهم، بعدما تعذّر علينا الحصول على قبورٍ لأطفال غزّة.