فجأة، لم يعد السؤال الأساس لماذا ورّط حسن نصرالله لبنان بحرب ترفضها ثلاثة من مكوّناته الأربعة. ولم يعد مهمّا أنّه قال "بعضمة لسانه" انّ قواه دخلت الحرب ب8 اكتوبر، أي بعد يوم واحد على بدايتها في غزّة. صار السؤال: كيف تجرؤ بلديّة فالوغا على الطلب من أهل البلدة التأكّد من السجلّ العدلي لطالبي الايجار فيها، ومراجعة البلديّة قبل توقيع عقد الايجار؟ وصارت المسألة كيف يرفض أهل غريفة الشوفيّة وجود نازحين جنوبيّين بينهم. وعاد الخطاب الممانع على السوشال الميديا الى الموّال الذي يعرفه جيّدا: خطاب المظلوميّة الدائمة، والتفجّع، والأسى من جحود من لا يعرف قيمة من "دافع عنه" بوجه اسرائيل وداعش.
من كان يظنّ أنّ النتائج الكارثيّة للحرب على البيئة الكريمة ستكون مناسبة لها للتفكير النقدي بخيارات نخبها التي زجّتها بالآتون مجدّدا (وزجّت الآخرين أيضا، رغم أنوفهم)، مخطئ تماما. صار واضحا أنّ الحرب مناسبة جديدة للبيئة الكريمة كي يستفرغ كتّابها، ومعلّقوها، وناشطوها المزيد من الكراهية الطائفيّة على مواقع التواصل الاجتماعي، ضدّ المسيحيّين أوّلا، والدروز ثانيا، وعموم من يعترض على سياسات لا تكاد تأخذ لبنان الى قعر، الّا لتركله بسرعة صوب قعر أعمق. ممنوع على أحد أن يسأل أن، حسنا، لم يأخذ أحد رأيي بحرب أرفضها، لماذا فجأة ينبغي أن أفتح بلدتي، وحيّي، بل منزلي نفسه لمن يريدها، ويكرهني؟ ماذا لو تحوّل المنزل الذي أقدمّه الى مستودع أسلحة؟ ماذا لو تمّ استهداف هذا المنزل وصارت حياة أطفالي بخطر؟ ماذا لو انتهت الحرب، ورفض "النازحين" المغادرة، واستقووا عليّ بقوّة سلاح يملكونه هم، ولا أملكه أنا؟ من سيحميني، والحال هذه؟ أتحميني ببيئتي الأحزاب السخيفة، التي تقول وتقول، ولا تفعل؟ أم تحميني دولة مركزيّة أعلم تماما أنّها صارت ضدّي؟
من يطرح على نفسه هذه الأسئلة ليس "مسيحيّا انعزاليّا" بفالوغا، أو "درزيّا متقوقعا" بغريفة، أو سائر المناطق. من لا يطرحها، بالحقيقة، مجنون، لأنّ هذه الأسئلة عين العقل. نظريّا، كان ينبغي على البيئة الكريمة التي تفرض على المكوّنات الأخرى مغامرة جديدة لا تريدها أن تنتبه لحقيقة مفادها أنّ حبل "البهورة" على اسرائيل قصير؛ وأنّ سرديّة "اذا ضربوا منضرب" تهريج؛ وأنّ دماء رفيق الحريري، وجبران تويني، ووسام الحسن، ورفاقهم الشهداء ليست رخيصة كي ننساها بسرعة؛ وأنّ دماء الشهداء ببيروت، والشويفات، وعموم الجبل، بدورها ليست رخيصة؛ وأنّ هويّة من كسر عاميّة 17 تشرين بالقوّة على وقع هتافات "شيعة، شيعة، شيعة"، معروفة؛ وأنّ هويّة من أتى بالنيترات للمرفأ معروفة أيضا؛ وأنّ كلّ ذلك يرخي بظلاله، لا محالة، على العلاقة بين البيئة الكريمة، وضحاياها، أي المكوّنات الأخرى. ولكن من يقرأ تعليقات البيئة الكريمة في الأيّام الأخيرة على السوشال ميديا لن يقع على أيّ شيء من هذا. بالعكس: بمقدار ما يزداد الضرب بالجنوب، بمقدار ما يزداد الحقد على المناطق التي لا تتعرّض للضرب، ويزداد تهديدها بأنّنا آتون للانتقام منكم بعد الحرب.
هي الكراهية الطائفيّة العميقة. والفهم المشوّش. ووعي حرب أهليّة دائمة لم تتوقّف يوما بعقول نشامى البيئة الكريمة، وأشاوسها. وترجمة كلّ ما سبق اثنان: تعظيم مستمرّ للذات التي تحققّ النصر الالهي تلو الآخر، على ما يبدو؛ ولوم الآخرين الذين يحاولون قدر الامكان مجانبة التورّط بمصيبة ناتجة عن خيارات تعاكس كلّ خياراتهم.
والحال أنّ هذا ليس جديدا. مشروع لبنان الكبير لم يكن سيّئا بحقّ البيئة الكريمة التي تقدّمت بالعقود الأربعة التي تلت 1920 أكثر ممّا تقدّمت طوال أربعة قرون ونيّف هي عمر الكابوس العثماني بمنطقتنا. وان لم تكن البيئة الكريمة تقدّمت بقدر ما كانت تشتهي، فذلك يعود أوّلا لنوعيّة نخبها آنذاك، وللارث العثماني بمحاربتها، لا لأنّ الجمهوريّة الأولى تآمرت ضدّها. لم يمنع ذلك البيئة الكريمة من تطوير كراهية ضدّ "المارونيّة السياسيّة" لا تزال تحرّكها الى الساعة. والحال أنّ لوم الآخرين على مصائب جرّها المرء على نفسه أسهل من النقد الذاتي. والحال، أيضا، أنّ الشراكة مع هذا النوع من الوعي الجماعي مستحيلة.