في المنطقة مشكلة سلام عربي إيراني لا مشكلة سلام عربي إسرائيلي.
والقول إنّ هذا مجرّد إفراز من إفرازات المشكلة الإسرائيلية-الفلسطينية هو تفسير بسيط ومضلّل للديناميكيّات الجيوسياسية المعقّدة في الشرق الأوسط. فالأسباب الرئيسية للتوتّرات الإيرانية-العربية تكمن في السياسات الإقليمية العدوانية لإيران، منذ الثورة الإسلامية عام 1979. في حين كانت العلاقات العربية الإيرانية إبّان حكم الشاه قد نجحت في الحفاظ على مستويات مقبولة من الاستقرار والتعاون السياسي.
منذ وصول الخميني إلى الحكم في طهران، كشف مشروع تصدير الثورة الإيرانية عن ملامح واضحة لأجندة مذهبية ثورية ذات طموحات توسّعية إقليمية هجينة تجمع بين الإرث الإمبراطوري الفارسي وبين تاريخ وميثولوجيا التشييع الإثني العشريّ، الذي ما تبنّته إيران مذهباً بالمناسبة إلا في القرن السادس عشر!
كانت فلسطين هي الصمغ الذي يشدّ أجزاء هذا المشروع بعضها إلى بعض، وصولاً إلى نظرية “وحدة الساحات” التي تشهد تعفّن الدول لحساب سيادة الميليشيات، من الحزب في لبنان، إلى الحوثيين في اليمن، مروراً بأرخبيل الميليشيات المختلفة في العراق وسوريا… وصولاً إلى الاستحواذ على جانب من حركة حماس تزعّمه إسماعيل هنية مضافاً إلى استتباع تنظيم حركة الجهاد الإسلامي بكلّيّته!
لم يسلم الخليج من محاولات التوسّع الإيراني، أكان في البحرين أو الكويت أو محاولات الاختراق العديدة في السعودية، وصولاً إلى محاولة اختطاف مصر إبّان ما سمّي “الربيع العربي”.
نظام مرسي يخطّط مع إيران ضدّ السّعوديّة
في هذا السياق كشفت وثائق مسرّبة لوزارة الداخلية الإيرانية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز عام 2019، أنّ لقاءات جمعت بين إخوان مصر في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، وقادة من فيلق القدس الإيراني في تركيا ربيع عام 2014، لتنسيق الجهود ضدّ السعودية في اليمن.
في وثائق أخرى كُشف عن زيارة للقاهرة قام بها قائد فيلق القدس المقتول قاسم سليماني، عرض فيها على المصريين المساعدة في خلق حرس ثوري مصريّ يعمل بموازاة أجهزة الأمن والجيش المصريَّين وتكون وظيفته حماية نظام مرسي.
وعليه، فإنّ استشعار الدول العربية للتهديدات الإيرانية لأمنها وسيادتها واستقرارها الإقليمي، ثابت ومعزول عن إفرازات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فهذه التهديدات ناتجة عن طبيعة المشروع الثوري التوسّعي الإيراني بحدّ ذاته، لا سيما شبكة إيران الواسعة من الميليشيات والوكلاء والمنظّمات غير الدولتيّة.
الخليج يحاول التبريد مع إيران
عبر هذه الشبكات غير النظامية تمارس إيران نفوذاً جيوسياسيّاً واسعاً، يقوم بشكل رئيسي وممنهج على زعزعة استقرار الدول المجاورة، واستتباع أمنها السياسي والاقتصادي. ليس أدلّ على ذلك من أنشطة وكلاء إيران في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ونشر الأصول البحريّة ودعم الجماعات المسلّحة على طول الممرّات المائية الحيوية وطرق الشحن العالمية، إضافة إلى محاولات التأثير السلبي على استقرار مشاريع التنويع الاقتصادي والتنمية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لا سيما مصر والأردن والخليج.
مع ذلك برزت خطوات عربية وخليجية براغماتية هادفة إلى خفض أذى إيران المباشر من دون أن ترقى إلى اختراقات حقيقية على مستوى صناعة سلام ثابت ودائم معها. وربّما الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين هو النموذج الأبرز في هذا المجال، مضافاً إلى تعزيز الانخراط الدبلوماسي بين طهران وأبوظبي في السنوات الثلاث الماضية.
بموازاة ذلك تعمل منظومة الاعتدال العربي على تعزيز تحالفاتها لمواجهة نفوذ إيران بفعّالية أكبر، في مجال الاستراتيجيات الدفاعية وتبادل المعلومات الاستخبارية. كما برز في الأشهر التسعة الأخيرة لحرب غزة مثابرة عربية على تصدّر جهود الوساطة السياسية لإدارة الصراع ومخرجات الحلّ السلمي وتطوير خطط “اليوم التالي” للحرب اقتصادياً وسياسياً.
قضيّة إيرانيّة – عربيّة… لا عربيّة – إسرائيليّة
ثمّة حاجة ملحّة إلى إعادة صياغة الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط بوصفه قضية إيرانية-عربية بدل أن يكون قضية عربية-إسرائيلية حصريّاً، بغية توفير فهم أوضح لتحدّيات المنطقة. فسياسات إيران وأفعالها هي العقبة الرئيسية أمام السلام والتنمية. وهي المساهم الرئيسي في تصعيد وتمكين اليمين الإسرائيلي وإضعاف منظومة السلام والاعتدال في الشرق الأوسط. ليس من باب الصدفة أن يحصل هجوم 7 أكتوبر 2023 بعد أسبوعين من إعلان المملكة العربية السعودية عن أفق عربي للسلام في المنطقة عبر مقابلة للأمير محمد بن سلمان مع شبكة فوكس نيوز.
في الواقع عملت إيران بشكل مستمرّ على تقويض عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسعت استراتيجيّاً إلى تعطيل أيّ تقدّم في هذا المجال منذ منتصف التسعينيّات.
بعد اتفاقية أوسلو، دعمت طهران كلّ الفصائل الرافضة للسلام وموّلت التفجيرات الانتحارية لتحطيم السلام الهشّ الوليد. ووفّرت عبر ذلك أفضل البيئات الحاضنة لنموّ اليمين الإسرائيلي المتطرّف الرافض بدوره لفكرة السلام والهويّة الوطنية الفلسطينية.
الحلّ بسلام عربيّ إيرانيّ
لم توفّر إيران الدعاية الإعلامية ومناهج التعبئة الأيديولوجيّة، وتعزيز خطاب الحقد والكراهية بغية نزع الشرعية عن عملية السلام. كما استثمرت ببراعة فائقة الأحداث العالمية الكبرى لتعزيز سرديّتها الجهادية. من هجمات 11 أيلول إلى حرب العراق… ومن اغتيال رفيق الحريري 2005 إلى حرب لبنان 2006، وصولاً إلى الربيع العربي وما بعده… لطالما عثرت إيران على أرض خصبة لتعزيز أجندتها المناهضة لإسرائيل والغرب أو للتسلّل إلى الأنسجة الاجتماعية والسياسية للدول المتأثّرة.
يتم تجيير كلّ ذلك لإدامة عدم الاستقرار الإقليمي وتعزيز الرواية بأنّ السلام مع إسرائيل غير ممكن، وأنّ المقاومة الدائمة هي البديل الموضوعي.
عليه لا سلام في المنطقة من دون سلام عربي إيراني تكون نتيجته نقل العلاقة مع إيران من كنف الميليشيات والأيديولوجية إلى كنف السياسة والاقتصاد والتنمية المشتركة. إيران غير قادرة على ذلك. هذا ما يعرفه كلّ من في المنطقة.
ربّما أخطر ما قد ينتج عن ذلك أنّ الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تتدحرج نحو حرب مباشرة مع إيران، وإن كان لا يريدها أحد.