وصول روزفلت ومذكّرات ظريف: نموذجان لردّ إيران وخياران أمام نتنياهو - بقلم جان عزيز
شارك هذا الخبر
Sunday, August 4, 2024
ردُّ إيران على اغتيال إسرائيل لقيادي “حماس” إسماعيل هنية، في قلب طهران، أكثرُ من حتميّ. لا بل هي حتميّةٌ ترتقي إلى مرتبة الضرورة الاستراتيجيّة الوجودية للنظام.
أمّا ردودُ إيران فقد عرفنا منها سابقاً نموذجين اثنين. وقد نكون خلال ساعات أمام نموذج ثالث مختلف نوعيّاً.
يبقى بنيامين نتنياهو ومِن خلفه دونالد ترامب. فهما يكادان يضحكان في سرّهما. إذ يعتقدان أنّهما في وضعيّة “رابح – رابح”، أيّاً كان ما ستفعله إيران.
لماذا هذه الحتمية الوجودية في الردّ الإيراني؟ وأيّ نموذجين سيجد الملالي أنفسهم مضطرّين إلى التخلّي عنهما؟ وكيف يتوهّم ثنائي نتنياهو – ترامب الربح المزدوج والمثنّى؟ هنا صلب الموضوع.
ليست مسألة شرف أو هيبة أو أيٍّ من مفردات البلاغة ما يفرض على إيران الردَّ على اغتيال إسرائيل لرئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية على أرضها وفي قلب عاصمتها وبين أيدي “حرسها” بالذات وتحت عيونهم. بل هي مسألة استراتيجية أساسية لموقع النظام الإيراني ولدوره كما يريده ويتصوّره. ذلك أنّ إيران الخمينيّة، وخصوصاً الخامنئيّة، عملت وتعمل بجهد هائل منذ عقود على تأسيس وتكريس “نظام إمبراطوريّ” في المنطقة، بالمعنى الرومانيّ للمفهوم. أي أن تكون هناك سلطة مركزية لهذه الإمبراطورية، في طهران، وأن تكون لها “ملحقات” تابعة في الجوار أو حتى في البعيد.
وأساسُ هذا النظام توافُرُ شروطٍ ومقتضياتٍ عدّة. منها طبعاً دعمُ المركز لولايات إمبراطوريّته بكلّ ما يعطيها عناصر القوّة. ومنها طبعاً علاقة التخادم المتبادل بين مسؤولي سلطة المركز وولاة الإقطاعيات الملحقة. ومنها أيضاً وخصوصاً، قدرة المركز على حماية هؤلاء، بحيث تشكّل سلطة المركز في وعي “الولاة” وفي وجدانهم وإدراكهم العمليّ والفعليّ، الملجأ والحصن والملاذ والموئل. حين يدخله أحدهم، يصبح في أمان مطلق. حتى ولو كان عرضةً لكلّ مخاطر الأرض.
ردودُ إيران فقد عرفنا منها سابقاً نموذجين اثنين. وقد نكون خلال ساعات أمام نموذج ثالث مختلف نوعيّاً جون ويك… الفارسيّ
هو شيء مماثل لمفهوم “كونتيننتال أوتيل” في سلسلة أفلام “جون ويك” العنفيّة الغرائبية. من يطأ أرضه، تسقط عنه ملاحقات كلّ الأرض.
هذا المفهوم الأساسي لا بل التأسيسي لنظام الإمبراطورية الإيرانية، هو ما ضربه جنونُ إسرائيل وأسقطه توحّش نتنياهو أخيراً. وهو ما لا يمكن لطهران أن تبلعه. فإذا ما فعلت، اندثر ركنٌ أساسيّ من أركان نظامها، ألا وهو القدرة الكاملة على الحماية المطلقة.
إذا سكتت “الإمبراطورية” عن تصفية هنية، فمن يجرؤ بعدها من “الولاة” الآخرين على زيارة “المركز”؟ وحين ينأى هؤلاء عن المركز شخصياً ومادّياً، تتراخى تدريجياً سلسلة الإمرة والقيادة، وتتراجع بالتالي سلطة المركز على الأطراف.
هي ثوابت التاريخ أنّه حين تقوم فجوة في الجغرافيا بين عاصمة الإمبراطورية ومقاطعاتها، تكون بداية نهاية الإمبراطورية نفسها.
لذلك يمكن لإيران أن تتساهل مع ضرب مسؤوليها الإيرانيين، أكانوا خارجها أو حتى على أرضها، أكثر بكثير من احتمال تساهلها مع ضرب “ضيف كبير” على أرضها، مثل إسماعيل هنية!
الرّدّ السّابق… الضعيف
الردُّ حتمي إذن. لكنْ وفق أيّ صيغةٍ ومدى؟
في الماضي القريب قدّم النظام الإيراني نموذجين لردّه على استهدافات كبيرة له.
نموذجٌ أوّل هو ما شهدناه في 13 نيسان الماضي، يوم نفّذت إيران وعدها بالردّ على استهداف نتنياهو لقنصليّتها في دمشق في الأوّل من نيسان الذي أدّى إلى سقوط عدد من كبار مسؤولي “حرسها”.
يومَها، وبعد تهديد بردٍّ مؤكّد، وبعد تحضير عميق ومتأنٍّ على مدى 12 يوماً، جاء الردُّ بنحو 300 مقذوف من مختلف الأنواع والأعيرة، على أرض الكيان الصهيوني مباشرة.
وهو ردٌّ اتّسم بأمرين:
– أوّلاً استخدامُ نوعيّات بطيئة من المقذوفات، بحيث تحتاج إلى ساعات لبلوغ أهدافها.
– وثانياً إبلاغ العالم كلّه بساعة إطلاق المقذوفات والتوقيت المقدّر لوصولها ومسارها كاملاً. وهو ما سمح لإسرائيل وحلفائها بالاستعداد لاستيعاب الضربة. وهذا ما حصل.
يروي الرجل في كتاب مذكّراته “عمق الصبر”، أنّه تلقّى اتّصالاً من نائبه عباس عراقجي (المطروح اليوم من بزشكيان خلفاً لظريف نفسه!) سخرية ترامب من الرّدّ الثاني
نموذجٌ ثانٍ للردّ الإيراني هو ما قامت به طهران انتقاماً لقرار ترامب تصفية قاسم سليماني، بما يمثّل ويرمز، في مطار بغداد فجر 3 كانون الثاني سنة 2020. يومها قرّر النظام تنفيذ ردٍّ مباشر على الأميركيين بشكل مماثل ومتناسب. هم ضربوا هدفاً إيرانياً عسكرياً خارج إيران. لذلك يكون الردُّ الإيراني على هدف أميركي عسكري خارج الولايات المتحدة.
وهو ما تُرجم بالقصف الإيراني لقاعدة عين الأسد العسكرية الأميركية في العراق، بعد خمسة أيام فقط، فجر الثامن من الشهر نفسه.
ظريف
نموذجٌ إيرانيٌّ ردعيٌّ ثانٍ تناوله لاحقاً ترامب، بكثير من سخريته وتهكّمه المتغطرسين، زاعماً أنّ مسؤولي طهران استأذنوه لتنفيذ ردِّهم.
لكنْ فلندع استعلاء ترامب جانباً، ولنقرأ في مذكّرات محمد جواد ظريف شخصيّاً، كيف نُفّذ ذلك الردّ الإيراني النموذجيّ الثاني.
رواية ظريف للرّدّ الضّعيف
كان ظريف يومها وزير خارجية النظام. وكان رئيسه حسن روحاني. يروي الرجل في كتاب مذكّراته “عمق الصبر”، أنّه تلقّى اتّصالاً من نائبه عباس عراقجي (المطروح اليوم من بزشكيان خلفاً لظريف نفسه!) في الساعة 4:30 من فجر ذاك الأربعاء، ليخبره بالهجوم، وأنّ مسؤولي الأمانة العامّة لمجلس الأمن القومي أيقظوا عراقجي من النوم في الـ3 فجراً وطلبوا منه نقل رسالة عبر السفير السويسري إلى أميركا، بصفة الأخير راعي المصالح الأميركية في طهران، في ظلّ القطيعة الدبلوماسية بين البلدين.
يعرض ظريف كيف استطاع العثور على السفير السويسري وتسليمه الرسالة، لكن يكتشف أنّ الأميركيين كانوا قد علموا بالهجوم من رئيس الوزراء العراقي (الأسبق) عادل عبد المهدي، قبل الرئيس الإيراني حسن روحاني وقبل وزارة الخارجية الإيرانية!
يختم ظريف: “يبدو أنّهم أخبروا عبد المهدي الثلاثاء ليلاً. لكنّ ما يثير تساؤلات: لماذا لم يخبروا الرئيس (روحاني) ووزير الخارجية؟”.
هل يتكرّر أيّ من النموذجين في الردّ المنتظر على غارة طهران الأخيرة؟ طبعاً لا. فإيران وإسرائيل وأميركا والمنطقة والعالم سيكونون على موعد مع نموذج جديد، للأسباب الواردة أعلاه بالتفصيل.
الواضح أنّ واشنطن تتوقّع ذلك وتتصرّف على أساس ترقّب ردٍّ مختلف بدليل الحشد العسكري غير المسبوق الرّدّ الجديد… وانتصار نتنياهو
الواضح أنّ واشنطن تتوقّع ذلك وتتصرّف على أساس ترقّب ردٍّ مختلف بدليل الحشد العسكري غير المسبوق، وبدليل إبلاغها تل أبيب مسبقاً بأنّ قدرتها على اعتراض الردّ قد لا تكون مطلقة، ولا حتى كافية لاحتوائه.
فماذا سيفعل نتنياهو بعدها؟
يقف الرجل المُفتَتن بذاته وقوّته حتى الجنون، أمام خيارين وجهتين دافعتين صوب كل منهما:
– جهة أولى يمثّلها بايدن وما بقي من زخم في إدارته. وهو يحاول إقناعه بالسيناريو التالي:
بعد الضربة الإيرانية، وبعد احتوائنا لها الكامل أو النسبي، أنصحك بالخروج إلى ناسك والناس، بهذا الخطاب:
ها أنا قد انتصرت. وهذه هي جردة انتصاري:
1 – لائحة أكبر خمسة رؤوس في “حماس”، شطبتُ أربعة منها. ولم أُبقِ إلا السنوار. لا لعجزي عن شطبه. بل لحاجتي إليه ذريعةً لأكمل تدميري لغزّة ولبنيتها التحتية كاملة.
2 – المسؤول السياسي الأوّل في الحركة، شطبتُه.
3 – المسؤول العسكري الأوّل في “الحزب”، شطبته. ومعه أكثر من 300 من كبار كادراته.
4 – للمرّة الأولى منذ 10 أشهر أعدتُ روح النصر إلى الشارع الصهيوني. حتى نزلوا إلى الشوارع يحتفلون.
5 -أنهيتُ أيّ معارضة سياسية لي. حتى زعيم المعارضة يائير لابيد اضطُرّ إلى الاصطفاف ورائي مرغماً، تحت ضغط شارعي وإنجازاتي.
6 – وأدْتُ كلّ ظواهر التباينات داخل الدولة، بين حكومة وعسكر، وتمرّدات هنا واقتحامات منشآت عسكرية هناك…
باختصار، أنا المنتصر. فتفضّلوا إلى طاولة تسويتي بشروطي.
عندها، يُكمل السيناريو الأميركي الأوّل المقدّم لنتنياهو، إذا أقدموا صدّقتَ نصرك، وإذا أحجموا أُحرجوا وربحتَ عذرك.
فتح جبهة جنوب لبنان.. ووصول روزفلت
أمّا من جهة ترامب، وعلى الرغم من كلّ الكلام العلني عن رفضه الحرب الشاملة، فيبدو أنّها تتقاطع مع ميل نتنياهو الطبيعي، العدواني التوسّعي. وذلك بالتفكير أنّه بعد الردّ الإيراني المرتقب، وخصوصاً بعد اعتراضه واحتوائه بنسبة ساحقة، ستكون الفرصة مثالية لإقفال جبهة غزة، والانتقال صوب جنوب لبنان لفرض تطبيق القرار 1701.
يعرض ظريف كيف استطاع العثور على السفير السويسري وتسليمه الرسالة، لكن يكتشف أنّ الأميركيين كانوا قد علموا بالهجوم وإذا وسّعت طهران ردّها أكثر، وسّع نتنياهو حتى استهداف نوويّها مباشرة. وهو ما يخدم حسابات ترامب الانتخابية، من الآن حتى استحقاقه في 5 تشرين الثاني المقبل، ويخدم توجّهاته السياسية المتوقّعة بعد ذلك التاريخ… إذا كان الله وليّ التوفيق!
على أيّ من الخيارين سيرسو جنون نتنياهو وتوحّشه؟ الأمر مرتبط بأيّ نموذجٍ ستعتمد إيران لردّها. وأيّ نتيجةٍ له ستكون على الأرض، بمواجهة الردع الأميركي.
في النهاية، قد لا تكون مصادفةً أنّ قطعة الردع الأميركية الأساسية الواصلة إلى منطقة النار تحمل اسم روزفلت بالذات، رئيس الحرب العالمية الثانية التي ظنّ العالم طوال سبعة عقود أنّها آخر حروبه الكبرى.