خاص- حين تسيطر على الميديا، يهون عليك التلاعب بوعي الناس! وهنا تكمن الجريمة الكبرى- بقلم المخرج يوسف الخوري

  • شارك هذا الخبر
Thursday, May 23, 2024

خاص- الكلمة أونلاين

قد يسخر منّي البعض ويسأل “كيف سيقبل حزب الله بتسليم سلاحه!؟” وجوابي هو: “سيقبل متى خلعنا عباءة الخوف عن أكتافنا، وقبلنا قبله بنزع سلاحه!!علينا تصويب البوصلة، وكفانا هُراء.

بعد وفاة العبقريّ عاصي الرحباني، سعى بعض رجال الفكر والأدب في بيروت الشرقيّة، ومن بينهم صديقي الشاعر موريس عوّاد، إلى تحويل المنزل الذي ترعرع فيه الرحابنة في انطلياس إلى متحف يحفظ إرثهم الفنّي. كان العهد عهد الرئيس أمين الجميّل، وتجاوبت في البداية المؤسّسات المعنيّة في الدولة مع المبادرة، ووعدت بشراء العقار الذي يضمّ المنزل، لكنّها يوم الاستحقاق لم تفِ بالوعد، فقرّر صاحب الأرض هدم المنزل وبناء مركز تجاريّ مكانه. تداعى أهل الفكر في محاولة أخيرة للضغط على الدولة لكي تلتزم بما وعدت به، غير أنّ احدًا منهم لم يجرؤ على مقاربة المشكلة كما يجب، ودخلوا في الهتر والخطابات الزائفة حتّى انتفض موريس عوّاد صارخًا:
“النايمين يُوعوا،
الواعيين يُوقفوا،
الواقفين يديروا وجّن صَوْب انطلياس،
في جريمِه عَ طريق بكفيّا،
عم يهدّوا بيت عاصي…”
يعود إلى ذهني هذا الموقف وهذه الكلمات كلّما تتبّعت أخبار الحرب في الجنوب اللبناني؛ ترى هل كان موريس سيعبّر بالأسلوب نفسه عن التعتيم القائم حول حقيقة ما يحصل في جنوبنا!؟ فيقول:
النايمين يُوعوا،
الواعيين يُوقفوا،
الواقفين يديروا وجّن صَوْب الجنوب،
في جريمِه عَ طريق القدس،
حزب الله عم يدمّر لِ بيوت، ويهجّر أهلها،
وما حدا بدّو يحكي عن هالمجزرة.
منذ تورّطه في حرب غزّة، يجاهد حزب الله في تشكيل حاضنة وطنيّة لبنانيّة تلتف حوله وتحمي خاصرته. اعتمد استراتيجيتين متوازيتين للوصول إلى ما يؤملُه:
الأولى ترمي إلى التحكّم بما يُبث في الميديا وعلى المنصّات الإلكترونيّة.
الثانية، تهدف إلى تعطيل وعي الناس.
في التحكّم بالميديا ووسائل التواصل؛
لدينا في لبنان أكثر من 20 تلفزيون وإذاعة تُقدّم نشرات الأخبار والبرامج السياسيّة، بعضها يتبع لمحور حزب الله الممانع، وما تبقّى يُناهضه أو يتجنّبه. بلمحة بصر، وبسحر ساحر، شعرنا بُعيد اعتداءات منظّمة حماس في 7 أكتوبر الماضي، وكأنّ هذه التلفزيونات والإذاعات اتّحدت تحت عصا مايسترو واحد، إذ غاب من بينها التنوّع في الآراء والمواقف، واستأثرت بموجات أثيرها الروبوتات المبرمجة منذ سنين على النطق بما يُمليه عليها حزب الله، فعمّت، أو فُرضت، الألفاظ الذهنيّة التي تتماشى مع مفاهيم الأصوليّات الإسلاميّة في حربها المفتوحة إلى الأبد مع إسرائيل، كـَ “فلسطين المحتلّة” و “العدو الصهيوني” وغيرها. ولضمان أقصى درجات التأثير على المواطنين، تمّ تدعيم حملة “حشي العقول” هذه بحركة ناشطة للدبابير الإلكترونيّة التابعة لحزب الله، وفُرض تعتيم كامل على أخبار “العدو”.
خلال الأسابيع الأولى من حرب غزّة، نجح المايسترو حزب الله، سواء بالإلزام أو بالترغيب، في إخراج صورة إعلاميّة تُبيّن أنّه مقبول ومُصان في الداخل، كما نجح في كبت الأصوات المعارضة لأفعاله الآثمة والمدمّرة بحقّ الدستور والسيادة في لبنان، ممّا مكّنه من الحلول مجدّدًا مكان الدولة في تقرير مصير الشعب اللبناني.
في تعطيل وعي الناس؛
حين تسيطر على الميديا، يهون عليك التلاعب بوعي الناس! وهنا تكمن الجريمة الكبرى.
هبّ الغُيُر اللبنانيون للتضامن انسانيًّا مع غزّة حتّى قبل أن تباشر إسرائيل ردّها على هجوم 7 أكتوبر. دفعتهم غيرتهم إلى اتّهام إسرائيل نفسها بمجزرة قتل شعبها، على اعتبار إنّه يستحيل خرق الجدار الحصن المحيط بغزّة من دون “قبّة باط” إسرائيلية! لكن حين تسألهم عن التقنيّات التي يحتويها هذا الحصن، والتي تمنع اختراقه، لا أحد يعرف شيئًا عنه!!
صاروا يكلّمونك بأنّ الظلم والظروف المعيشيّة الرديئة التي يرزح تحتها الغزاويّون منذ عقود، هما اللذان أوصلا الى ارتكاب المجزرة!! غير أنّهم لم ينتبّهوا إلى أنّ مستشفيات غزّة، وسيارات الإسعاف في غزة، أهم بأشواط من تلك التي عندنا. لم يتنبّهوا بأنّ الغزاويين لم تُسرق أموالهم من البنوك، وبأنّ كهرباءهم مؤمّنة، وطاقتهم البديلة متطوّرة جدًا، وطرقاتهم وشوارعهم منوّرة، وبأنّ مرفأهم لم يُفجّر، بل هم فجّروا أرضهم…
هبّ الغُيُر اللبنانيون للتضامن وللمساندة وللإلهاء، ونسوا أنّهم هم بأمسّ الحاجة لمَن يرأف بأوضاعهم.
إنّه التلاعب بالوعي بعينه، وقد كمّله حزب الله بتنظيم مؤتمرات ولقاءات وندوات، لاسيّما في المناطق المسيحيّة، الغاية منها الخروج ببيانات تندّد بإسرائيل، وتجاهر بالعداء للصهاينة، وتدعم الحركات والتنظيمات الأصوليّة الإسلاميّة في لبنان الجنوبي وغزّة.
وعلى الرغم من التمويل غير المُستهان بحجمه لجرّ اللبنانيين خلف قراراته، ولتشريع أفعاله المتهوّرة واغتصابه لقرار الدولة، أخفق حزب الله في إتمام أهدافه، وانقلب الله على حزبه؛ إذ عِوض أن يقف اللبنانيون خلفه ويدعموه، تنكّروا له وعَلَت أصواتهم المطالبة بعدم حشر لبنان في حرب ضد إسرائيل، وبتطبيق القرار 1701 كاملًا، أي وصولًا إلى تجريد حزب الله من سلاحه، وإلى ترسيم الحدود مع سوريا.
لكن،
ولكون حرب غزّة طالت، لم يعد الوقت يلعب لصالح الحزب، إذ انكشف عجزه عن الإيفاء بوعوده؛ من “تحرير القدس” إلى “وحدة الساحات”، ما اضطره إلى اعتماد ألاعيب إعلاميّة كلاسيكية لزَيْح الأضواء عن جريمته التي لا يزال يُمعن في ارتكابها في الجنوب، وقد أدّت لغاية الآن إلى سقوط مئات الضحايا، وتهجير عشرات الألاف من الأهالي وتدمير قراهم.
يُلاحظ المراقب بسهولة أنّه في الفترة الأخيرة صرنا بالكاد نعرف ماذا يحصل في الجنوب، فيوم يلهوننا بالراهبة التي تُريد أن تصلّي للمقاومة الإسلاميّة، ويوم آخر يسلّطون الضوء على نائب “مسيحي” يحلم بالاستشهاد على طريق القدس، وفجأة يحتلّ وسائل التواصل خلاف بين طبّاخ وزوجته بالكاد تعرفهما. ثمّ يأتي اغتيال القيادي في القوات باسكال سليمان، وبعده الحملة ضد المهجّرين السوريين، فعصابة التيك التوك، لتعود مجدّدًا قصص الطبّاخ بالتزامن مع تهريب أسلحة من تركيا، وتحديدًا من تركيّا، لإثارة النعرات ضدّ السنّة في لبنان!!! وكما التهى اللبنانيون بالتضامن مع غزّة ونسوا أنفسهم، أصبحوا اليوم تائهين عن الجنوب ويتلهّون بأخبار “ايد مين بجيبة مين”!!!!
لا نجزم بأنّ حزب الله هو مَن يقف خلف كل هذه “اللهوات”، لكنّنا نؤكّد أن الحزب يتحكّم بماكينة إعلاميّة منتظمة، وبعدّة جيوش إلكترونيّة تعرف جيّدًا كيف تستغل أحداثًا معيّنة وتحرّف الأنظار نحوها.
هو يُريد الحرب، وقد جَرَّنا إليها بطريقة أو بأخرى. كلّ الآخرين لا يُريدون الحرب، لكن ماذا يفعلون!!؟ سقفهم الـ 1701 والسجالات على شاشات التلفزة.
أين الكتل النيابيّة المعارضة التي خاضت الانتخابات تحت شعار التغيير من الداخل!؟ لماذا لا تحذو حذوَ جنوب أفريقيا وتتقدّم بدعوى ضدّ حسن نصرالله وحزبه أمام محكمة العدل الدولية!؟ فهو، ومن دون أدنى شكّ، يرتكب جرائم حرب وجرائم اعتداء ضدّ لبنان واللبنانيين منذ العام 2006، وتحرّشه اليوم بإسرائيل بحجّة مساندة غزّة، قد يعرض لبنان وشعبه للخراب والاحتلال مرّة جديدة من قبل الإسرائيليين. فمتى يستدركون!؟
حزب الله يُريد التعتيم عن أخبار الجنوب؛ فلتتمّ التعمية عنه بالكامل، ولتُريحنا وسائل الإعلام حتّى من إطلالات حسن نصرالله السرياليّة البوليوودية،. أما آن الأوان لهؤلاء؟
الأمم المتّحدة قامت بكلّ ما هو متوجّب عليها بخصوص تنفيذ القرارات الدوليّة، لذا علينا نحن الآن الالتزام بما هو علينا والاتّفاق على تجريد حزب الله من سلاحه دون أيّ شرط، وسوقه إلى المحكمة ولو على حساب السلم الأهلي كما هو يهدّدنا على الدوام. ربّ ضارة نافعة، ربّما الحرب توقظ مجلس الأمن وتذكّر أعضاءه بأنّنا كلبنانيين موجودون. وفي هذا الإطار ايضًا، يجب عدم التفاوض بعد الآن مع أيّ دولة، عظمى كانت أم صغرى، في حال كانت تتعامل مع حزب الله كممثّل للبنانيين على مائدة المفاوضات الآتية. “هَون بدها وقفة عز وراس عالي”.
قد يسخر منّي البعض ويسأل “كيف سيقبل حزب الله بتسليم سلاحه!؟” وجوابي هو: “سيقبل متى خلعنا عباءة الخوف عن أكتافنا، وقبلنا قبله بنزع سلاحه!!
علينا تصويب البوصلة، وكفانا هُراء.