إنهيار القطب الأوحد... وولادة النظام العالمي الجديد: حلم للشرق وكابوس للغرب- بقلم المحامي معوض الحجل

  • شارك هذا الخبر
Friday, February 23, 2024

يشهد العالم حالياً انعطافاً غير مسبوق نحو نظام عالمي جديد يُبدل ركائز اللعبة الدولية، بعد أن شهدَ عقوداً من سيطرة نظام أحادي القطبية بذلت فيه الإدارة الأميركية جهوداً جبارة لكي تظل القطب الأوحد في قيادة دول العالم مُتجاهلة بقية الدول باتباعها سياسات تخدم حصراً مصالحها وأطماعها التوسعية، غير مبالية باحتياجات الدول وسلامتها واستقرارها، معتمداً نهج "أميركا أولاً" على حساب الأمم وتآكل الشعوب، وحشدت في سبيل ذلك كل طاقتها وثرواتها لخلق بؤر ومناطق للصراعات والحروب والتدخل الفاضح في شؤون الدول الداخلية لتصبح المسيطر الوحيد على العالم، الأمر الذي ترتبَ عليه صحوة عالمية مُتمثلة برفض الدول لهذا النظام الأحادي، لتتجه الدول اليوم نحو بناء نظام عالمي جديد بتكتلاتهِ وتحالفاتهِ، ليصبح الملاذ الآمن لكافة الدول والشعوب ولا سيما الفقيرة منها.


يرى الكثير من الباحثين أن الإدارة الأميركية، بأيديولوجيتها الليبرالية ذات المذهب الرأسمالي المتوحش تطمع في بلوغ المستحيل؛ احتواء عملاقين هامين في وقتٍ واحد هما روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية.

تلك المحاولة ليست أول محاولة لها، فقد طمعت الإدارة الأميركية خلال القرن العشرين في احتواء كل من العراق وإيران على مدى ثلاثة عقود، لكن الحصيلة كانت كارثية في كلتا الحالتين، فهي لم تنجح بتاتاً في احتواء إيران، ولم تستطع تغيير النظام العراقي، بل تهاوت الدولة العراقية نفسها.

وبناء عليه، تتناول هذه الدراسة التشكيل العالمي الجديد وتاريخهِ وأسسهِ واتجاهاتهِ واللاعبين الجدد فيه.


تعريف "النظام العالمي الجديد"
لم يكن تعريف شعار "النظام العالمي الجديد"، كما استخدم في حقبة ما بعد الحرب الباردة، متقدم أو موضوعي. تم تعريفه تدريجياً خلال ثلاث فترات متمايزة، أولاً من قبل الاتحاد السوفياتي ثم من قبل الولايات المتحدة الأميركية قبل مؤتمر مالطا ومرة أخرى بعد خطاب الرئيس جورج بوش الأب في 11 أيلول 1990.

في المرحلة الأولى، رَكزَ مفهوم النظام العالمي الجديد على أهمية نزع الأسلحة النووية وإعادة تنظيم الترتيبات الأمنية بين المعسكرين السوفياتي والأميركي. وسعَ الرئيس الراحل ميخائيل غورباتشوف (السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي بين عامي 1985-1991) مضمون العبارة لتشمل تقوية وتنشيط دور منظمة الأمم المتحدة وتعاون القوى العظمى الموزعة ما بين الشمال والجنوب، والمشكلات الأمنية.


صيغة ميخائيل غورباتشوف
وردت الإشارة الأولى لهذه المصطلح في إطار المحادثات الهندية السوفياتية في 21 تشرين الثاني 1988. استخدمَ رئيس الوزراء الهندي الراحل راجيف غاندي (1944-1991) المصطلح في إشارة إلى الالتزامات التي قدمها الاتحاد السوفياتي من خلال إعلان دلهي قبل عامين. يقوم النظام العالمي الجديد على مبادئ "اللاعنف ومبادئ التعايش السلمي". ويشمل أيضًا إمكانية تحقيق سلام عالمي دائم، وبديل عن توازن الرعب النووي، وتفكيك كافة أنظمة الأسلحة النووية، وتخفيض كبير لكمية الأسلحة الاستراتيجية المصنعة، وفي نهاية المطاف نزع كامل للأسلحة.


بعد ثلاثةِ أيام، نقلت مقالة نشرتها صحيفة "الغارديان" البريطانية عن الأمين العام لحلف الناتو حينها مانفريد فورنر(1934-1994) قولهُ إن السوفيات اقتربوا من قبول عقيدة الناتو المُتمثلة في الاستقرار العسكري من خلال المزج بين الأسلحة النووية والتقليدية. في رأيهِ، هذا من شأنهِ أن يحفز إنشاء "إطار أمني جديد" والانتقال نحو "نظام عالمي جديد."
ومع ذلك، فإن البيان الجوهري الذي أوجدَ مفهوم "النظام العالمي الجديد" جاءَ في خطاب ميخائيل غورباتشوف في 7 كانون الأول 1988 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

اشتملَ الخطاب على قائمة واسعة من الأفكار تساعد على إنشاء نظام جديد. ودعا إلى تعزيز الدور المركزي لمنظمة الأمم المتحدة والمشاركة الفعالة لجميع الدول الأعضاء.

فضلاً على ذلك، دعا غورباتشوف السوفيات للانضمام إلى العديد من المنظمات الدولية الهامة، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومحكمة العدل الدولية. شدد على أهمية تنشيط دور منظمة الأمم المتحدة لحفظ السلام العالمي والاعتراف بأن تعاون القوة العظمى يمكن أن يؤدي وسيؤدي إلى حل النزاعات الإقليمية كان أساسياً بشكلٍ خاص في مفهومهِ للتعاون. وأعتبرَ غورباتشوف أن استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة لم يعد مشروعًا وعلى القوي التحلي بضبط النفس تجاه الضعيف. وطلبَ التعاون بشأن حماية البيئة، وتخفيف عبء الديون للبلدان النامية، ونزع الأسلحة النووية، والحفاظ على معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية وبشأن اتفاقية لإزالة الأسلحة الكيميائية. في الوقت نفسهِ، وعدَ بتحقيق انسحاب كبير للقوات السوفياتية من دول أوروبا الشرقية وآسيا وكذلك إنهاء التشويش على إذاعة أوروبا الحرة.


قارنت الصحافة العالمية حينها مخائيل غورباتشوف بالرئيس الأميركي الراحل ودرو ويلسون (1856-1924) بإعطاء النقاط الأربع عشرة، والرئيس الأميركي الراحل فرانكلن ديلانو روزفلت (1882-1945) وونستون تشرشل(1874-1965) بإصدار ميثاق الأطلسي وجورج مارشال وهاري ترومان في بناء التحالف الغربي. الرسالة الأساسية المستخلصة من خطابهِ الشهير كانت الدعوة لبناء نظام عالمي جديد قائم على التعددية والتسامح والتكاتف.


مع الوقت، بدأت تظهر تداعيات النظام العالمي الجديد على المجموعة الأوروبية. كان يُنظر إلى المجموعة الأوروبية على أنها مجرد وسيلة للدمج بين الشرق والغرب. بحلول شهر تموز من العام 1989، كانت الصحف العالمية لا تزال تنتقد مواقف الرئيس الأميركي جورج بوش الأب (1924-2018) بسبب عدم استجابتهِ لمقترحات ميخائيل غورباتشوف. زارَ الرئيس جورج بوش الأب الدول الأوروبية، لكنهُ "غادر دون تحديد لمن هم على جانبي الستار الحديدي رؤيته للنظام العالمي الجديد"، مما دفعَ المحللين إلى النظر الى الإدارة الأميركية على أنها شديدة الحذر والتفاعل، بدلاً من السعي وراء استراتيجية واضحة ذات أهداف بعيدة المدى.


في العالم المتحول، وضعَ الرئيس بوش وبرنت سكوكروفت (مستشار الأمن القومي الأميركي سابقًا) استراتيجية مُتكاملة مفصلة تهدف إلى إغراق مخائيل غورباتشوف بالاقتراحات في مؤتمر مالطا للإيقاع بهِ على حين غرة، ومنع الولايات المتحدة الأميركية من الخروج من القمة في موقف دفاعي.


أعادَ مؤتمر مالطا في 2 و3 كانون الأول 1989 إحياء النقاش حول أسس النظام العالمي الجديد. ظهرت مفاهيم جديدة مختلفة كعناصر في النظام الجديد. توقعَ المحللون استبدال الاحتواء بتعاون القوى العظمى.

أما القارة العجوز أي أوروبا، فكان مطلبها الأساسي هو توحيد ألمانيا كجزء من النظام العالمي الجديد.


عموماً، بدا أن الهيكل الأمني الجديد الناشئ عن تعاون القوى العظمى يشير إلى أن النظام العالمي الجديد سوف يقومُ على مبادئ الحرية السياسية وتقرير الشعوب لمصيرها وعدم التدخل في شؤون الدول.

من الناحية الاقتصادية، كان من المتوقع أن يكون تخفيف عبء الديون قضية مهمة حيث إن التنافس بين الشرق والغرب سيفسح المجال للتعاون بين الشمال والجنوب.
ستنشأ علاقة اقتصادية ثلاثية متينة بين الولايات المتحدة الأميركية ألمانيا واليابان باعتبارها المحركات الثلاثة للنمو العالمي.



حرب الخليج الثانية وصيغة بوش الأب
باشرَ الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في أخذ زمام المبادرة من غورباتشوف خلال الحقبة التي سبقت اندلاع حرب الخليج الثاني (1990-1991)، عندما بدأ في تحديد عناصر النظام العالمي الجديد كما رآه وربط نجاح النظام الجديد باستجابة المجتمع الدولي لتحرير الكويت من الغزو العراقي.


أفادت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية حينها أن التعاون بين القوة الدولية العظمى يدل على أن الاتحاد السوفياتي قد أنضمَ بعد طول انتظار إلى المجتمع الدولي وأنهُ في النظام العالمي الجديد يواجه الرئيس العراقي صدام حسين المجتمع الدولي بأكمله وليس الإدارة الأميركية فحسب.


في 6 آذار من العام 1991، تلا الرئيس بوش خطابًا أمام الكونغرس الأميركي، الذي غالبًا ما يُستشهد بهِ باعتباره بيان السياسة الرئيسي لإدارة بوش بشأن شمول النظام العالمي الجديد منطقة الشرق الأوسط بعد طرد القوات العراقية من الكويت.


النقطة المحورية في خطاب الرئيس بوش في 11 أيلول 1990 جاءت بعنوان "نحو نظام عالمي جديد". هذه المرة كان الرئيس بوش، وليس غورباتشوف، الذي قورنت مثاليته بــــ "وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت" عند تأسيس منظمة الأمم المتحدة. النقاط الرئيسية التي أعلنتها الصحافة العالمية حينها هي:


- الالتزام بقوة الولايات المتحدة الأميركية، بحيث يمكنها أن تقود العالم نحو حكم القانون والعدالة، بدلاً من استخدام القوة. كان يُنظر إلى أزمة الخليج على أنها تذكير بأن الولايات المتحدة الأميركية يجب أن تستمر في القيادة وأن القوة العسكرية مهمة، لكن النظام العالمي الجديد الناتج يجب أن يجعل القوة العسكرية أقل أهمية في المستقبل.
- الشراكة السوفياتية الأميركية من أجل جعل العالم آمناً للديمقراطية، مما يجعل أهداف منظمة الأمم المتحدة مُمكنة التطبيق لأول مرة منذ تأسيسها في العام 1945.
- الاندماج السوفياتي في المؤسسات الاقتصادية العالمية مثل مجموعة السبعة وإقامة علاقات مع المجموعة الأوروبية.


اعتُبرت استعادة السيادة الألمانية وقبول كمبوديا لخطة سلام مجلس الأمن الدولي في اليوم السابق للخطاب دلالات على ما يمكن توقعهُ في النظام العالمي الجديد.
-عودة ظهور ألمانيا واليابان كعضوين في القوى العظمى والإصلاحات المصاحبة لمجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة كان يُنظر إليه على أنهُ ضروري لتعاون القوى العظمى وتنشيط قيادة منظمة الأمم المتحدة.


افترضَ عددٌ قليل جدًا قيام نظام جديد ثنائي القطب يتمثل بقوة الولايات المتحدة العسكرية وسلطة الأمم المتحدة الأخلاقية، الأول كشرطي عالمي، والثاني كقاضي وهيئة محلفين عالميين. سيكون النظام جماعيًا يتم فيه تقاسم القرارات والمسؤوليات.


هذه كانت الموضوعات المشتركة التي ظهرت من التقارير حول خطاب الرئيس بوش وتداعياته.



كان الخطاب محوريًا فعلاً. جاءَ شرح محوري للخطاب بعد أسبوع أي في 18 أيلول 1990. ثم ألقى الكاتب والصحافي تشارلز كراوثامر (1950-2018) محاضرة في واشنطن قدمَ فيها فكرة أحادية القطبية الأميركية. بحلول خريف عام 1990، نُشر مقاله في مجلة الشؤون الخارجية بعنوان لحظة أحادية القطب كان لها علاقة محدودة بالكويت. كانت النقطة الرئيسية ما يلي:


"لقد افترضنا أن العالم ثنائي القطب القديم سينجب عالماً متعدد الأقطاب … عالم ما بعد الحرب الباردة مباشرة ليس متعدد الأقطاب. إنه أحادي القطب. مركز القوة العالمية هو قوة عظمى لا منازع لها، الولايات المتحدة، يحضرها حلفاؤها الغربيون."






المؤشرات الخمس لاتجاه الدول الكبرى إلى النظام العالمي الجديد
المؤشر الأول - تقدم دول وعلى رأسها وجمهورية الصين الشعبية وروسيا الاتحادية على المشهد العالمي، في خضم التطورات العالمية الجديدة (الحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات المالية العالمية، والعقوبات الاقتصادية الأميركية، والحصار الأميركي للصين بعد تفوقها عليها عالمياً، وتراجع الدور الأميركي، ولفظ الدول الإفريقية لاستعمار الغرب ومنها فرنسا، والحروب والصراعات الدموية في القارة السمراء، الإرهاب، الهجرة، والتغير المناخي، والصراع الروسي الغربي). فهذه التطورات المتسارعة تشكلُ إشارة الانطلاق للبدء الفعلي في تكوين النظام العالمي الجديد، اما النظام الحالي الذي تترأسه الإدارة الأميركية وتحارب من أجل بقائه على قيد الحياة واستمراره فقد بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.
المؤشر الثاني - تغيير ديناميكية الجغرافيا السياسية (الجيوبولتيك) القائمة على الموارد البشرية والطبيعية للدول وما ينتج عنه من توسع جغرافي على حساب الدول والأوطان إلى الاتجاه نحو التقارب في العلاقات السياسية والاقتصادية وفقَ مصالح الدول. ومن ثم، تتجه علاقات الدول فيما بينها نحو التطور الاقتصادي وقوة الدول ونفوذها وما تمثله من دور مؤثر في المنطقة وتوسعها سياسياً، وقيام الصين بدور الوساطة في منطقة الشرق الأوسط، فالجيوبولتيك بمفهومها لم تعد مقبولة الآن؛ حيث إنها قائمة على توسيع الدول لحدودها الجغرافية حتى ولو على حساب دول الجوار، وهو ما تنتج عنهُ ليس فقط اندلاع الحروب العبثية وتراكم الخسائر الاقتصادية بل انهيار كامل للدول.


المؤشر الثالث - نمو تحالفات وتكتلات مقابل تراجع قوة التحالفات الحالية مثل حلف الشمالي الأطلسي (الناتو) الذي حَصرَ دورهُ الأمني في تقديم المساندة العسكرية عند اندلاع الصدامات المباشرة والحروب، ومنظمة الأمم المتحدة التي اقتصرَ دورها على الشجب والإدانة فقط.


المؤشر الرابع - التفاهم بين اللاعبين الجدد على خريطة العالم الجديدة بعد أن شهدَ العالم صعود نجم قطب واحد ظلَ لعقود يقود السياسة العالمية منفرداً، يُصدر التعليمات، يُملي الشروط ويوقع العقوبات.


المؤشر الخامس - نظام اقتصادي جديد تجاوز العملة الواحدة (الدولار الأميركي) والاتجاه للعملات المحلية وسلة عملات جديدة.


الحرب الباردة الثانية تمهد الطريق لولادة نظام عالمي جديد
يسلط الدبلوماسي الإيطالي السابق ماركو كارنيلوس في مقال نشرهُ موقع Middle East Eye البريطاني، الضوء على الحرب الباردة الجديدة الدائرة بين الإدارة الأميركية وحلفائها الغربيين من جهة، والقوى الأوراسية بزعامة الصين من جهة أخرى، ويدافع عن توقعهِ بأن هذا النزاع سينشأ عنه نظام عالمي جديد، ويعرض للفرص التي قد تتبلور عن هذا الانقسام لدول الحياد، خاصة قوى منطقة الشرق الأوسط.


بحسب كارنيلوس، فإن الحرب الطاحنة في أوكرانيا والتوترات المتزايدة بشأن جزيرة تايوان تمثل الأركان الأساسية للطموحات الأميركية المُتجددة، ولذلك تداعيات جسيمة مثل: أزمات الطاقة ونقص الغذاء العالمية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، واضطراب سلاسل التوريد، والتوترات التجارية، واحتدام السباق التكنولوجي، وأسوأ ما في الأمر أن هذه المشكلات كلها محفوفة بأزمة ركود وتضخم ارتسمت ملامحها الكئيبة في الأفق القريب.


لخَّصَ وزير الخارجية الأميركي الراحل، هنري كيسنجر (1923-2023)، شدة خطورة هذا الأمر، بالقول: "نحن (أي الولايات المتحدة الأميركية) على شفير حربٍ مع روسيا والصين بشأن أمور كان لنا نصيب من أسباب نشأتها، وقد فعلنا ذلك من غير تصور عن عاقبة ذلك، ولا رؤية لما يفترض أن تؤول إليه الأمور".


ملامح النظام العالمي الجديد
- صعود القوى الدولية الجديدة، وتعظيم قدرتها على استخدام سياسة الوفاق، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، والانتفاع من تجارب وأخطاء القطب الواحد، والعمل على تفاديها حتى لا تكون عائقاً في مسيرة تكوين النظام العالمي الجديد.


- قيام القوى الصاعدة بمناهضة سياسة الانفراد في النظام العالمي الجديد والتكاتف والعمل سوياً هو سمة الفاعلين الجدد لإرساء نظام التعددية القطبية وهو ما يظهر جلياً بالتعاون الوثيق بين روسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية، والبرازيل، والهند.


- تعمل التعددية القطبية الجديدة على التغيير الجذري للنظام الدولي الحالي الذي تأسسَ عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وهو ما تم فعلياً وظهر جلياً بالتجمعات والتحالفات المكونة مؤخراً.


- تعددية قطبية تعمل الآن على بناء نظام اقتصادي جديد قائم على الاندماج بين الدول المتقدمة والنامية الذي من شأنه تضييق هامش الفجوة الاقتصادية. هذا النظام غير موجود حالياً بين الدول المُتقدمة والنامية وهو ما زرعهُ القطب الأوحد على مدى ثمانين عاماً، الأمر الذي خلقَ دولاً تهيمن وتستغل ثروات الدول النامية.

- حرص التعددية القطبية على تبني سياسة الوفاق والتعاون لنهضة الدول ما نتج عنه نظام عالمي أكثر إنصاف وعدالة، الأمر الذي يترتب عليه نهوض وتقدم الاقتصادات النامية.
- تعددية قطبية تعمل على مكافحة الأنشطة الإرهابية في النظام الدولي الجديد.

- زيادة عدد اللاعبين، أصبح الحلف الغربي يضم أميركا والدول الأوروبية (نشهد ذلك الآن في الحرب الروسية الأوكرانية، وتأييد الدول الأوروبية للسياسة الأميركية). أما الحلف الآسيوي الجديد والقديم في آن فيضم روسيا والصين والهند وغيرها من الدول.


إلى من سيؤول تشكيل النظام العالمي الجديد؟
نرى أن هذهِ المواجهة قد تفضي إلى إعادة ترتيب النظام العالمي، لكن التصور الواقعي يُرجِّح تشكيل نظام عالمي جديد ثلاثي الأقطاب:

القطب الأول: هو الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، الذي يجسدهُ "ثالوث التحالف المقدس" بين مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G7) وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي.

القطب الثاني: هو الكتلة الأوراسية بقيادة الصين ويضم روسيا، إيران، الهند، البرازيل وبعض دول الشرق الأوسط بالإضافة إلى دولة جنوب أفريقيا.

أما القطب الثالث: فيتألف من الدول التي لا تريد الانخراط في أيٍّ من الحلفين، أي بقية دول العالم، التي يطلق عليها تسمية جنوب الكرة الأرضية. وغالب الأمر أن تقف هذه الدول على الحياد بينما تتنازع الكتلة الديمقراطية الغربية والكتلة الاوراسية النفوذ العالمي.

خصائص النظام العالمي الجديد
- نظام اقتصادي يسمح بتدخل الحكومات المركزية لمراقبة وضبط الإيقاع مما يخدم مصالح الشعوب والدول جميعاً.

- نظم سياسية تعتمدها الاتحادات الجديدة لضبط التوازنات وإدارة الخلافات، ووضع ميثاق عالمي جديد ما يؤسس لسياسة خارجية وعلاقات دولية جديدة.

- نظام اجتماعي عادل لمواجهة المخاطر المشتركة التي تُهدد شعوب الأرض وسلامتها، والعبث بالأوطان ومقدراتها، والارتقاء بالشعوب وإشباع احتياجاتها الحياتية.

- نظام ثقافي جديد وهذا ما نشهدهُ من تغلغل الصين وروسيا الاتحادية ثقافياً في كل دول العالم.

- نظام قانوني عالمي يحترم الاتفاقات والمواثيق والقوانين الموقعة بين الدول.

- نظام عالمي يعمل على ضبط التوازنات بين القوى المتعددة من تكتلات ومراكز قوى.



السيناريوهات الأميركية لتدمير النظام العالمي الجديد
لن تقف الإدارة الأميركية مكتوفة الأيدي تجاه تشكيل النظام العالمي الجديد وولادة أقطاب متعددة بتكتلاتها. تتجلى السيناريوهات الأميركية في الآتي:

- مهاجمة التجمعات والتكتلات الناشئة حديثاً من جهة، والاتجاه إلى تكوين تحالفات تنضوي تحت لوائها بهدف الحفاظ على نظامها العالمي الحالي كقطب أوحد من جهة أخرى.
- اعتماد الإدارة الأميركية سياسة الحرب الناعمة لمنع الدول الصاعدة من التحول إلى قوة اقتصادية وتكنولوجية منافسة.

- عمل الإدارة الأميركية على صّد النفوذ الآسيوي المتنامي في القارة الإفريقية، لا سيما في دول غرب إفريقيا ما جعلها تتحالف مع جميع الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا.
- تحريض ودعم انقلاب الشعوب على أنظمتها الوطنية، خاصة على الجيوش الوطنية، والوضع في السودان خير إشارة.

- جر الصين وروسيا لخوض حروب عبثية بهدف استنزافهما عسكرياً.

- تحميل الصين أمام الإعلام العالمي مسؤولية انتشار وباء كورونا.

- حروب الطاقة والغذاء وهي حروب جديدة على العالم بأكملهِ.

- قيام منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الإدارة الأميركية ببذل كل الجهود حتى لا يختل النظام العالمي الحالي لمصلحة الدول الصاعدة.

معركة الإدارة الأميركية من أجل "أسر القلوب وإقناع العقول"
تعمل دول الجنوب الفقيرة على تحرير نفسها بعد عقود من الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية الغربية، لكن هذا لا يعني انضمامها حكماً إلى محور الكتلة الأوراسية، بل السعي إلى نظام عالمي جديد أكثر مرونة. وقد أثبتت حرب أوكرانيا بأن كثر لم يُقبلوا على تلبية نداء الإدارة الأميركية للعالم من أجل الاصطفاف ضد روسيا.

يبذل المعسكر الغربي كل جهدهِ ليأسر قلوب الشعوب وعقولهم في الجنوب العالمي، لكن خلل المعايير المتغلغل في الغرب تجاه خصومهِ والانحراف المطرد للنظام العالمي عن قواعدهِ أصعب للناس بكثير من الحرب الروسية الأوكرانية.

ويبدو حتى الآن أن التجمعات السياسية غير الغربية، مثل "منظمة بريكس" (التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا وجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأرجنتين وأثيوبيا وايران) و"منظمة شنغهاي للتعاون" أكثر جاذبية لدول الجنوب. فالدول الديمقراطية الغربية لا تستميل إليها سوى الدول المشابهة لها في تفكيرها والمنضوية تماماً تحت لوائها، كما يتضح من انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الشمال الأطلسي(الناتو).

أما القوى البارزة في أقاليمها مثل تركيا فتبحث لنفسها عن وجهة أخرى.


الصين وروسيا وبناء الاستقلالية القطبية الجديدة

تعمل الصين وروسيا على إيجاد بدائل للدولار الأميركي، ولنظام سويفت للدفع العالمي، ولبورصتي نيويورك ولندن. وقد انسحبت شركات صينية مملوكة للدولة من البورصات الأميركية، كما تسعى الصين إلى تخفيض استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية.

إذا استمرت الحال كذلك فإن مزيداً من الدول قد تبدأ في البحث عن أماكن أخرى أكثر أماناً لرصيدها الاحتياطي من الذهب والعملات الصعبة، خاصة بعد استيلاء الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمى على الأرصدة الوطنية الأفغانية والفنزويلية، فضلاً عن استيلاء الدول الغربية غير المسبوق على 300 مليار دولار من الاحتياطي الروسي.

واقع الأمر أن الإمعان في فصل اقتصاد روسيا عن الغرب، والانفصال المحتمل للاقتصاد الصيني، قد يغير ملامح النظام العالمي تغييراً جذرياً



الاتحاد الأوروبي الخاسر الأكبر
فشلَ الاتحاد الأوروبي لغاية تاريخه في حجز مقعد لهُ كأحد المؤسسين للنظام العالمي الجديد بل وكما أظهرت التحاليل أنهُ فضل البقاء في الصفوف الخلفية مُتسلحاً بقوة الإدارة الأميركية العسكرية والاقتصادية.


كل الحروب والمواجهات التي حصلت وتحصل مؤخراً سهلت ولادة النظام الجديد ولكنها في الوقت نفسه أضعفت دول الاتحاد الأوروبي على كافة الصعد: الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية...


اعتمدت الدول الأوروبية لعقود وعقود على الغاز والنفط الروسي الرخيص الثمن. ولكن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تبدلَ كل شيء. رحبت الدول الأوروبية بأغلبيتها بنظرية العقوبات على روسيا كحل للصراع في أوكرانيا. تضمنت العقوبات مقاطعة الإنتاج الروسي من النفط والغاز وغيرها من المواد الأولية. بدل انهيار الاتحاد الروسي أمام هذه العقوبات وتفككهِ أصبح أقوى وأشرس. إذ قامت روسيا بتصدير إنتاجها إلى الدول الصديقة مثل الهند والصين... أما أوروبا فأصبحت تعاني من أزمة مواد أولية حادة نتيجة اعتمادها على النفط المستورد من مصادر أخرى وبثمن أغلى بكثير، مما زاد كلفة النقل والتصنيع وأدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات الأوروبية ولا سيما السيارات والصناعات الثقيلة.


ما زاد معاناة دول الاتحاد الأوروبي هو الحرب الدائرة في البحر الأحمر بين الحوثيين من جهة والدول الأجنبية من جهة أخرى. أوروبا ستكون الخاسر الأكبر من دون منازع وليس الولايات المتحدة الأميركية أو الصين أو روسيا. إذ يُعتبر البحر الأحمر ممرا حيويا للسفن التجارية المتوجهة نحو الدول الأوروبية.

تلاشى مع الوقت الدور الذي لعبتهُ أوروبا لقرون وقرون وصولاً إلى العام 1945 أي مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى درجة لم يعد المحللون يراقبون باهتمام دور الاتحاد الأوروبي على الصعيد الدولي بل التركيز أصبح حصراً على دور الإدارة الأميركية والصين وروسيا.

أسئلة كثيرة تطرح ومنها حول الوضع الحالي للاتحاد الأوروبي ودوره في النظام العالمي الجديد أكان على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الأمني.

اقتصادياً: تدهور دور الاتحاد الأوروبي في مواجهة العملاق الصيني الذي يسير بخطوات ثابتة وجبارة لتصدير منتجاتهِ لكافة دول العالم.

سياسياً: لا يملك الاتحاد الأوروبي سياسة موحدة تجاه مختلف المواضيع الساخنة المطروحة دولياً ومنها الهجرة الشرعية وغير الشرعية. تشمل الخلافات انقسام المواقف حول الحروب الدائرة ولا سيما الحرب الأوكرانية مما يجعل الاتحاد الأوروبي طرفاً ضعيفاً سياسياً غير قادر على طرح الحلول بل يقوم دون تردد بمتابعة وتنفيذ ما تقرره الإدارة الأميركية.

عسكرياً: كشفت الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا ومنذ اللحظة الأولى ضعف النظام العسكري والأمني الأوروبي. إذ تعتمد معظم دول الاتحاد على الترسانة العسكرية الأميركية الضخمة لحمايتها من التوسع الروسي المحتمل نحو أراضيها. تقوم الإدارة الأميركية من دون تردد بوضع جميع إمكانياتها العسكرية والأمنية والمالية في تصرف أوكرانيا بهدف صّد الهجوم الروسي وربما خسارة روسيا الحرب. هذا يدل على ضعف الاتحاد الأوروبي وعدم إمكانيته تقديم أي شيء على الصعيد الأمني والعسكري مسلماً زمام الأمور للإدارة الأميركية التي تنفذ أجندتها الخاصة التي لا تشمل حماية الدول الأوروبية وإنما فقط استخدام أراضيها لتنفيذ الهجمات ضد روسيا وليس أكثر.


علمياً: تفوقت الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية على الدول الأوروبية بأشواط على الصعيد العلمي، أكان من خلال حجم ونوعية المنتجات المصنعة أو البحوث العلمية أو حتى في رحلة السباق الى الكواكب. كل الشركات العملاقة موجودة حالياً في الولايات المتحدة الأميركية والصين وليس في أوروبا. الشركات الأوروبية أصبحت في وضع صعب وتبحث عن دول أخرى تستقبل مصانعها. والمثال الأبرز على الضعف لدى الدول الأوروبية هو استقبال الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون ايلون ماسك ELON MUSK في أيار من العام 2023 بهدف تشجيعهِ على فتح المصانع ومؤسسات الأبحاث في فرنسا بهدف دعم الاقتصاد الفرنسي.


وعليه، نرى أن الاتحاد الأوروبي يمرُ حالياً في أزمة وجودية متعددة الأوجه تشمل: ضياع الهوية، ضعف الانتماء الوطني، انهيار الاقتصاد، أزمات تسهم جميعها في تفككهِ.
أما الإدارة الأميركية الحالية فهي على قاب وقوسين من خسارة لقب "القطب الأوحد" على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولم يعد لها السلطة والنفوذ المطلق في الشؤون الدولية ولم يعد بمقدورها خوض الحروب بطريقة مباشرة وإنما بالوكالة.


نقولُ للمشككين، إن لا محالة من ولادة النظام العالمي الجديد بعد مخاض عسير وطويل من رحم الحرب الباردة ليعطي أمل بحياة أفضل لجميع شعوب الأرض المقهورة.