محمد قواص- السعودية ولبنان: انتهى "الدلع"... وبدأ زمن الإصلاحات
شارك هذا الخبر
Wednesday, September 27, 2023
يسهل في لبنان التسويق لرواية عن "حصار" يتعرّض له لبنان، والزعم أنّه يقف وراء أزمته الاقتصادية غير المسبوقة التي هي بين الأشدّ حدّة في العالم منذ 1850، وفق البنك الدولي في تقريره لعام 2021. والرواية وإن كانت تُروَّج على لسان الحزب وتيّار الممانعة، فإنّها .تُراود أفكار خصوم الحزب في العتب على الشقيق والصديق، اعتراضاً على معاقبة لبنان كلّه باسم معاقبة ارتهان بيروت لقرار الحزب وأجندة إيران.
تقوم تلك "المظلوميّة" على مسلّمة عجيبة، ربّما تكون دول الخليج مسؤولة جزئياً عنها، مفادها أنّ الدعم الخارجي، السعودي الخليجي خصوصاً، هو "تحصيل حاصل" ومن أبجديّات وجود لبنان وشروط تشغيله. حتى الأمين العام للحزب، على الرغم من الخصومة المعلنة مع الرياض، خرج للغمز من قناة توقّف الدعم السعودي. قال في كانون الثاني الماضي: "يحسبو حالهم عم يلعبو فوتبول"، في إشارة إلى السخاء السعودي على الاستثمار في الرياضة، خصوصاً كرة القدم، التي تقدّمت لتصير "الرقم 1 في الشرق الأوسط"، بحسب الأمير محمد بن سلمان في حواره على قناة "فوكس نيوز" نهاء الأسبوع الماضي.
دعم "الأعداء"!
لم تطرح دول الخليج أسئلة في العقود الماضية بشأن "جدوى" الدعم الذي تقدّمه إلى لبنان. ولم يصدف أن اشتكى أهل الخليج من تدفّق المعونات والاستثمارات من بلادهم صوب لبنان، إضافة إلى تلك الطارئة التي كان يتمّ التعجيل بإرسالها إذا ما تعرّض البلد لخراب الحروب وما أكثرها ضدّ وفي هذا البلد. بدا أيضاً بالنسبة للخليجيين أنّ الأمر "تحصيل حاصل" ومن أبجديّات العلاقة الخاصّة التي تربط كلّ دول الخليج بلبنان.
الجديد أنّ لبنان تغيّر وتحوّل إلى ميدان معادٍ لكلّ دول الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات. بات البلد يصدّر خلايا إرهاب تمّ رصدها داخل بعض دول مجلس التعاون الخليجي، ويصدّر مخدّرات، لا سيما الكبتاغون، ويدعم ويروّج ويدرّب ويسلّح أخطاراً أطلّت من اليمن على السعودية والإمارات مهدّدةً أمن الخليج برمّته.
يجيبني أحد المطّلعين في الرياض على سياسة بلاده حيال لبنان: "الجديد أنّ السعودية تغيّرت، وتغيّرت جدّاً، على نحو بات معه جائزاً مراجعة وجهة المساعدات ونجاعتها في الاقتصاد والأمن والسياسة، والتخلّي عن خيارات وسياسات في التعامل مع لبنان كانت تراوح بين العفوية والبساطة والانفعالات العاطفية التي لا تتّسق مع أبسط قواعد العلاقات بين الدول".
لكن بعيداً عن الرؤية السعودية فإنّ الجديد أيضاً أنّ العالم قد تغيّر. وربّما فوجئ لبنان بأنّ العالم الذي تواطأ معه في العقود السابقة انقلب عليه من دون مقدّمات. فالبلد الذي كان يفتخر بمنظومته الاقتصادية والماليّة والمصرفية، ويسلك سبلاً غير سويّة في إدارة الشأن الماليّ من فساد وتسيّب واستهتار واستسهال، كان يحظى بغضّ طرف إقليمي ودولي ورعاية المؤسّسات الماليّة واحتضان من قبل المؤتمرات الدولية المانحة (مؤتمرات "سيدر" مثالاً) من دون رقيب أو حسيب.
نهاية "الأسطورة" اللبنانين
نعم انتهت "أسطورة" لبنان الرشيق الذي يخرج طائره من الركام بقدرة قادر. والقادر هنا هو مجموعة الدول التي كانت تضخّ مليارات من الدولارات إلى خزينة الدولة، بأشكال وسبل وفتاوى مختلفة. بدا أنّ هذا الخارج أزال خيمة "البَرَكة" عن "المعجزة" اللبنانية وبات يقذف بأسئلة تأخّر طرحها بشأن "المنهبة" المنظّمة التي ازدهرت بدون وجل، وبشأن وفورات دولاريّة وموادّ استهلاكية مدعومة تهرَّب بكميّات فلكية إلى خارج الحدود مستنزفة خزينة الدولة ومستهترة بوجبات الدعم المالي التي دفعت بها صناديق الخليج.
لا يصرّح الخليجيون بذلك، لكنّهم وضعوا حدّاً لسياسة "الدلع" التي مارسوها مع لبنان فتعاظمت انحرافات "الطفل المدلّل" إلى حدّ السوقيّة وارتكاب المعاصي باسم "سويسرا الشرق" حيناً و"هانوي العرب" حيناً آخر و"المقاومة والممانعة" حيناً أخيراً. بات منع العون المجّاني عن لبنان جزءاً من الأمن الاستراتيجي لدول الخليج، لا سيما أنّ لبنان لم يبخل على الخليجيين بأخطار تستهدفهم في لبنان وفي بلدانهم.
يسهل على زائر الرياض أن يلاحظ أنّ أهل السعودية يتأمّلون بحزن وأسى الدرك الذي وصل إليه لبنان بتورّط وتخطيط وتنفيذ بعض لبنان. لا يبخل السعوديون بالتعبير عن عواطف ودّ وحنين إلى لبنان مُستَوحَيَيْن ممّا يكنّونه من مشاعر للبنان القديم الذي عرفوه. بعضهم يقول بحرقة: "ماذا فعلتم بلبناننا؟". بعضهم الآخر، وهم من رجال الأعمال الكبار، حدّثوني عن معرفتهم برفيق الحريري وعمّا كان يحمله من أحلام لبلده قبل أن يمارس السياسة.
العلاج لاستعادة لبنان
يتأمّل السعوديون المصاب ويدركون صواب الرؤى السعودية المستجدّة حيال لبنان، ويعتبرونها علاجاً ومحاولة لاستعادته. وعلى الرغم ممّا تثيره مظاهر الثراء الفاحش والسلوك الاستهلاكي المفرط للبعض في لبنان من غضب لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، غير أنّ السعوديين لا يعلّقون على هذا الأمر ولا يتدخّلون حتى بالرأي في هذا الصدد.
"لا نتدخّل في شؤونكم". هي كلمة سرّ الرياض هذه الأيام حين تتناول شأن لبنان. تحدّث وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في 10 آذار الماضي (وهو يوم توقيع الاتفاق السعودي الإيراني في بكين) عن أنّ "الأزمة ليست مع لبنان، بل هي في لبنان". يكرّر السفير السعودي في بيروت وليد بخاري من دون كلل: "ندعم خيار اللبنانيين". صحيح أنّ للسعودية رأياً في ملفّ لبنان، وهي أساس في المشاورات الثنائية والثلاثية والخماسية لإخراجه من عنق الزجاجة، لكنّها في خياراتها لا تفرض على اللبنانيين ما يجب أن يفعلوه، بل إنّها تُبلغ من يهمّه الأمر "ألفباء" الرياض المتّسقة تماماً مع ورقة المبادرة الخليجية ذات الـ 12 بنداً التي حملها وزير الخارجية الكويتي آنذاك أحمد الناصر الصباح في كانون الثاني 2022.
تحدّث حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري عن اتصالات "واعدة" أجراها أثناء زيارته للسعودية أوائل أيلول الجاري. وإذا ما كان للزيارة طابع تقنيّ مصرفي فإنّ الأبواب التي فُتحت لمنصوري تعطي إشارات ترحيب بأيّ سياسات إصلاحية أظهرها منصوري. لكن في النهاية، باختصار، لن تموّل السعودية ولا دول الخليج بلداً خاضعاً بالقوّة والرضى للنفوذ الإيراني. ولن تموّل منظومة اقتصادية مالية غير صالحة لإدارة المال العامّ وحسن استخدام المساعدات المالية الخارجية. ولن تموّل اقتصاداً لا يُجري الإصلاحات المطلوبة، وبعضها ليس من بديهيات التسيير الذاتي الحديث فقط، بل من البديهيات الأخلاقية بامتياز. فإذا أراد اللبنانيون غير ذلك، فلسان حال الرياض يقول: "لكم دينكم ولي ديني".
السعودية لا تدير الظهر للبنان. احتفلت سفارتها واللبنانيون باليوم الوطني السعودي في وسط بيروت بضيافة المدرج الروماني هناك. بدا أنّ للسعودية لبنانها وأنّ على اللبنانيين أن يتّفقوا على لبنانهم.