الباحث ميشال سعد - ضرورات التغيير وتحصين الوعي اللبنانيّ من الارتطام الصّاعق

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, June 6, 2023

إستثارت مسألة التغيير المجتمعيّ اهتمام العديد من مفكّري الحداثة وما بعد الحداثة، ولقد شغلت هذه القضيّة حيّزًا بالغ الأهميّة في ميادين الفلسفة والسوسيولوجيا والسياسة، منذ فيورباخ وهيجل وماركس، مرورًا بكونت ودوركهايم وفيبر، وصولاً إلى المدرسة النقديّة في فرنكفورت بأجيالها الثلاثة. وبمعزلٍ عن الجدال الأيديولوجيّ القائم حول فهم وتفسير حركة التاريخ وتعيين مسارها عند التقدميّين من ناحية، وعند المحافظين من ناحيةٍ أخرى، إلّا أنّ التغيير بات ضرورةً ملحّة في لبنان، إنطلاقًا من بداهة الحاجة إليه، إزاء الانعطاب الناشئ في البُنى المجتمعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. هذا الانعطاب الذي هتك بجميع المقدّرات الماديّة والبشريّة والمؤسّساتيّة للدولة والمجتمع.

تعود أسباب هذا الانعطاب إلى أزمةٍ لصيقةٍ ببنية الوعي المجتمعيّ في لبنان، إذ إنّ الوعي اللبنانيّ يشكّل فريسةً مستساغةً لنظامين إجتماعيين يقومان دومًا بافتراسه، ويعملان بلا هوادةٍ على هدرِ قواه؛ الأوّل هو نظام الشموليّة، والثاني هو نظام التّفاهة. تمثّل الشموليّة تبعيّةً مفرِطةً للأفراد تؤدّي إلى ذوبان وعي "الأنا" وسط الجماعة، فيما تُنتجُ التفاهة فردانيّةً مزيّفةً للأفراد تؤدّي إلى تضخّم وعي "الأنا" وسط الجماعة.

نظام الشموليّة وتنميط الوعي
لا تقتصر الشموليّة على النظام السياسيّ فحسب، إنّما تتعدّاه لتشمل مختلف الأدوات التي تتحكّم بجميع مفاصل الحياة الفرديّة والمؤسّساتيّة، وذلك من خلال استلاب الوعي المجتمعيّ وتطويعه لخدمة الأيديولوجيا. فالشموليّة، كما وصفتها الفيلسوفة الألمانيّة - الأميركيّة حنّه أرندت (1906-1975)، هي نظامٌ مجتمعيّ يقوم على ديناميّةٍ تتعمّد التدمير الذاتيّ للمجتمعات. تتمثّل مخاطر هذا النظام في عمليّة إقحام المؤسّسات المجتمعيّة في عمليّة تنميطٍ ممنهجة، تُرهِق وعي الأفراد، وتفتك بقواه، وتستنفد قدراته البنّاءة على النقد والمبادرة والقدرة على التغيير. لذا، قد يوحي النظام الشموليّ للأفراد بأنّه حصن خلاصهم وملاذهم الأخير، إلّا أنّه بالمقابل، يجعل الأفراد يتبنّون طوعًا المعرفة المجتمعيّة السائدة، بوصفها صوابًا موروثًا يتحكّم في سلوكهم وشعورهم ومواقفهم. تتمّ حماية هذا النظام وتدعيم منعته عن طريق تشرّب الأفراد أفكار الأيديولوجيا، التي تمسي مقاومتها للتغيير وديمومتها، مرتبطتان بلاعقلانيّة الجمهور، وخوفه، وولائه للزّعيم، الذي يختصر بشخصه قيمة الحق، وسلطان الفصل في القضايا الأخلاقيّة والسياسيّة وغيرها. فللأيديولوجيا موهبة الزّحف والتسلّل خلف جدار الوعي، وإفحامه بشتّى أنواع الحجاج وأنماط البراهين الحشويّة، التي تستقيها من داخل بنيتها الأسطوريّة، والتي تتنافى قطعًا مع مستلزمات المنطق ومقتضيات المعرفة العلميّة. إنّ قصور الوعي الأيديولوجيّ في الاضطلاع بمهام التفكّر وأساليب النقد، يقود في المحصّلة إلى ذوبان الذّات الفرديّة وانسحاقها في الذّات المجتمعيّة، ممّا يفضي إلى إذعانها لمشاعر الخوف، ومخاصمتها للمعرفة، ومعاندتها بالتالي لشتّى أنواع التغيير.

نظام التّفاهة واستنزاف الوعي
تنحو بالمقابل بعض السلوكيّات المجتمعيّة إلى المبالغة في الممارسة الليبيراليّة، التي تسطِّح بدورها الوعي المجتمعيّ، عبر اختزال معاني التقدّم والحريّة والانفتاح، وسَوق مواقف الأفراد واتجاهاتهم نحو نظام التفاهة. قد يتسربل نظام التفاهة بوشاحٍ ليبيراليٍّ غاوٍ، إلّا أنّه قد يخفي أيديولوجيا خبيثة، تقود إلى تجويف الوعي، وتفريغه من الرّصانة التي تقتضيها تحدّيات المجتمع والسياسة. يرى الفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو (1970، ...) أن نظام التفاهة يمثّل محنة الوعي في مجتمعات ما بعد الحداثة، بوصفه نظامًا يجعل من فئة التافهين، طبقةً اجتماعيّةً متحكّمةً بجميع مفاصل الحكم والمجتمع والعمل. يحمي هذا النظام نفسه من خلال حثّ الأفراد على الاستهلاك المفرِط، والبحث عن ترف الخدمة، وبالتالي استنزاف وعيهم من قبل سلطةٍ أوليغارشيّة (حكم النخبة)، أو بالأحرى بلوتوقراطيّة (حكم الأثرياء)، تستبدل مؤسّسات الدّولة بأنظمةٍ هجينةٍ، تهدم قيمة العمل وتقوّض الثقافة الديموقراطيّة لحساب الهزليّة الشتّامة والرّداءة والتفاهة. يرمي إذًا هذا النظام إلى تشييء الإنسان وتسليعه وتحويله إلى آلةٍ استهلاكيّةٍ جشعة، من شأنها أن تودي بوعي الأفراد إلى نوعٍ من الوعي الزّائف، القائم على نجوميّةٍ فارِهة، وانتفاخٍ للذّات. لذا، قد ينسحبُ سلوك التفاهة إلى سحق إرادة الأفراد وتخدير وعيهم، وبالتالي انحرافهم عن الانشغال بقضايا مجتمعهم، وتصوّراتهم التغييريّة المرتكزة على رجاحة العلم وشحذ الهِمَم.

الرّهان على الوعي
بالرّغم من أنّ حركة التاريخ تنطوي في ذاتها على بذورِ التقدّم وإمكانات التغيير، إلّا أنّه يستحيل على هذا التغيير أن يقود إلى مصلحة الأفراد، أو أن ينفذ إلى استقرار المؤسّسات وانتظامها، بمعزلٍ عن وعي المجتمع لآليّات هذا التغيير من جهة، والموانع الكابحة له من جهةٍ أخرى. يعزو البعض التغيّر المجتمعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ في لبنان إلى فعلِ الخارج، وأثر هذا الفعل على الدّاخل بوصفه مفعولاً به. ويحاول البعض الآخر تفسير الظاهرات المجتمعيّة والواقعات السياسيّة المتغيّرة، بالاستناد إلى فهم البُنى الثقافيّة والطبقيّة الخاصّة بالمجتمع اللبنانيّ. إلّا أنّ المقاربة العلميّة لمشكلات الداخل اللبنانيّ ومنعته أمام محاولات التغيير، تشتمل على مستوياتٍ متعدّدة في الفهم، يمكن الولوج إليها من خلال صياغة مرصوفةٍ مركّبة من جميع هذه العناصر، التي تتشاكل في ما بينها وتتداخل، في سبيل استجلاء المشهديّة العامّة للواقع، وفهمها بالتالي فهمًا رصينًا.

لذا، لا تشكّل القابليّة التكوينيّة لتقدّم التاريخ، الأهليّة الوحيدة للتغيير المجتمعيّ، ما لم تقترن بجهوزيّة وعي الأفراد والمجتمعات، إذ يمثّل الوعي أوّلاً، الشرارة التي يندفع منها نشدان التغيير، ويوفّر ثانيًا، الأداة التي تصوغ آليّاته، وتضبط مساراته وتقوّمها. والمثال على ذلك، هو تمكّن بعض المجتمعات في التاريخ من القبض على مفاهيم التغيير، والحفاظ على مكتسباته، واستثماره في الإصلاح المجتمعي وبناء الدّولة، في حين عجز البعض الآخر عن الإمساك بمتونه، وذلك من خلال استلاب وعي الأفراد، وتهالك نخوتهم في ظلّ تنامي الفساد وتعاظم الطغيان. قد تكون الظروف التاريخيّة والموضوعيّة للتغيير مؤاتيةً في كلتا الحالتين، لكنّ العائق في الحالة الثانية، ربّما يكمن في هشاشة الوعي المجتمعيّ وتصدّع بنيته. وتتمثّل رخاوة الوعي، في عدم تمكّنه من إحداث الصّدمات الإيجابيّة لإنعاش حركة التغيير وضمان ديمومتها.

قد يقود هبوط الوعي المجتمعيّ في لبنان إلى دركِ الانصياع الشموليّ، أو الانزلاق إلى مستويات الزّحف خلف ليبيراليّةٍ خادعة، إلى ارتطامٍ صاعقٍ للحياة المجتمعيّة والمؤسّساتيّة في الدّولة. يُظهر تارةً هذان النّسقان تنافرًا حادًّا بينهما، ويتماهيان طورًا ببعضهما البعض، فيشكّلان معًا دهاءً هجينًا، وحذاقةً عصيّةً على التغيير تفتك بقدرات الوعي، وتنال من المصالح العليا للدولة والمجتمع. ويعني ذلك أنّ تتخفّى الشموليّة خلف بعض ملامح البزخ والرّفاه، وأن تتلوّن التفاهة بالمقابل ببعض مزايا القوميّة والالتزام الأخلاقيّ، إلّا أنّ هذه السلوكيّات تؤدّي في كلتا الحالتين إلى تفتيت الدولة وتصدّع البنى المجتمعيّة فيها. لذا، فإنّ بناء الدّولة وديمومتها لا يرتبطان بلحظة إبرام المواثيق الكيانيّة فحسب، إنّما ينسحبان إلى عمليّات استنهاضٍ متعاقبةٍ للوعي المجتمعيّ، تخوّله من نقد ذاته، وتمضي به قدمًا نحو التغيير. والمثال على ذلك، أنّ الوعي اللبنانيّ غالبًا ما ينتظر تغيّر الظروف حتى يغيّر ما في ذاته، في حين أنّ المجتمعات التي ركبت مراكب التقدّم، تَعمَّد فيها الوعي المجتمعيّ بدايةً تغيير ما في ذاته، وذلك عبر تمكّنه من اشتراط الإتاحة الظرفيّة الممكنة، واقتناص الخيارات المناسبة له، التي تؤهّله من الانتقال السياسيّ.

فإعادة التموضع التي يفترضها التغيير في المحصّلة، تستوجب على الوعي ألّا يكون ممانعًا أمام حتميّات التقدّم ومقتضياته، وذلك عبر استخدام أدوات النقد. وتُلزم الوعي بالمقابل أن يُنتج مفاهيمه التغييريّة بنفسه، لا أن يستنسخها محاولاً تهجينها للإطاحة بالقيم التي يكتنزها، وبالأصالة التي ينشدها كلّ تغيير.

ميشال سعد - باحث في الفلسفة السياسية والعلوم الاجتماعية