المحامي معوض رياض الحجل- نظرة تفاؤلية إلى مستقبل لبنان الاقتصادي

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, May 30, 2023


الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها الشعب اللبناني منذ العام 2019 ظاهرة تاريخية فريدة بأسبابها وأنعكاستها وأبعادها. ولعل أحد أغرب نتائجها أنها فشلت فشلاً ذريعاً في القضاء على لبنان كبلد، بينما نجدُ أزمات اقتصادية أقل منها شدة تمكنت من أزالة دول عديدة، كانت تفوق لبنان قوة ومناعة بأشواط، عن الخريطة العالمية. فالأزمة الراهنة ضربت بنية مؤسساتنا العامة والخاصة على أختلاف أنواعها واشكالها وشتتت قطاعاتنا الاقتصادية، لدرجة أن فريقاً من الخبراء الاقتصاديين أعتبرَ أنَ دور لبنان المميز والريادي أنتهى إلى غير رجعة، بينما يتساءل آخرون عما بقي من لبنان ومدى أمكانية استعادة مركزه المرموق أقليمياً ودولياً.

إن لبنان كانَ ولا يزال وسيبقى، وكما أنتصرَ شعبهُ على المحن والتحديات، في الماضيين القريب والبعيد، سينتصرُ مجدداً على هذه الأزمة. فما هو مصدر قوة هذا البلد الصغير بمساحتهِ وما سر استمراريتهِ وصمودهِ في وجه العواصف والأعاصير؟





لقد وجدَ الانسان في لبنان نفسه يعيش على أرض تنعدمُ فيها، أو تكاد، الثروات الطبيعية في باطن الأرض، وتضيق عليها امكانات الزراعة، ولا يؤمن سوقها المحلي الطلب الأدنى الكافي لنشوء الصناعة بشكلٍ متنوع وواسع. وعوض أن يدركهُ الانكسار والاحباط، أرتدَ هذا الانسان المبدع إلى نفسهِ ليكتشف فيها ما حرمتهُ منه الارض ولينطلق عبر مئات السنين في صقل شخصيتهِ وليصنع من نفسهِ ثروة الأرض الأولى.

لقد فشلت الأزمة المتكررة في تحطيم الانسان في لبنان، والأمر نفسهُ يقال عن دمار مرفأ بيروت في العام 2020 الذي جَعلَ هذا الانسان يزداد عناداً وشراسة في مواجهة القدر الأسود. في هذا الانسان، يكمنُ سر صمود لبنان في وجه الازمة ومنهُ ينبعث تفاؤلنا وأيماننا بقدرة الاقتصاد اللبناني على تخطيها بنجاح.





إن كون الانسان ثروة لبنان الأولى، حتّمَ نشوء نظام اقتصادي يتلاءم مع شخصيتهِ المندفعة ومكّنه من تحقيق كل أمانيه. من هذا المنطلق كان نظامنا الاقتصادي الحر نتيجة طبيعية لتفاعل الانسان، من دون تردد أو خوف، مع الظروف المحيطة بهِ وأنعكاساً لتوقهِ المستمر إلى الحرية بكل معانيها وأشكالها. فنظامنا الاقتصادي الحر ليس مستورداً من الخارج كما يردد البعض ولا مفروضاً بالقوة علينا، بل هو نمو طبيعي لهذا الانسان الذي لا تعرف مبادرته الفردية الخلاقة حدوداً سوى السماء. إن مستقبل لبنان الاقتصادي مرتبط بقدرتنا على العودة التدريجية إلى هذه الاصول والمبادىء التي بفضلها أزدهر الاقتصاد اللبناني لعقودٍ وعقود من الزمن.

الفوضى والنظام الحر

غير أن التأكيد على ضرورة الحفاظ على النظام الاقتصادي الحر لا يعني ابداً العودة يوماً إلى ما كان يشوب أوضاعنا الاقتصادية من فوضى. فالنظام الاقتصادي الحر ليس بأي شكل من الاشكال نظام الفوضى والاحتكار، والحرية المعنية فيه ليست من دون ضوابط أو حدود، والمبادرة الفردية التي طالما فاخرَ بها اللبناني أمام شعوب العالم، يتوجب الا يستمر في مرافقتها باستخفاف وعدم اكتراث. إن أحد مشاكل لبنان الاقتصادية الرئيسية قبيل الازمة وخلالها كمنت في أن نمو القطاع العام كمًا ونوعاً لم يجار بتاتاً التطور السريع والباهر الذي حققهُ القطاع الخاص، أكان من ناحية تدريب الموظفين أو استعمال وسائل التواصل الحديثة أو حتى وضع خطط متطورة للعمل موضع التنفيذ.





عبرَ الاقتصاد اللبناني بمرحلة من تاريخه الحديث توازي تلك التي عاشتها الولايات المتحدة الاميركية في القرن التاسع عشر حين كانت الليبرالية الاقتصادية تسعى وراء تقزيم دور القطاع العام الى الحد الادنى الممكن. غير أن تطور المجتمع وتنوع احتياجاتهِ، ونمو الاقتصاد الوطني وتعقده، ادى بالليبرالبية الاقتصادية في الولايات المتحدة الاميركية إلى أن تعكس نظرتها إلى الدور المطلوب من القطاع العام في الحياة الاقتصادية، فاتجهت نحو تعزيزه، مما أنقذ النظام الاقتصادي الاميركي الحر من التصدع وربما الانهيار، وحرك امكانات الولايات المتحدة لتصبح تلك القوة الاقتصادية العالمية الهائلة. وبالرغم من الفرق الهائل والشاسع على كل المستويات بين مقدرات الولايات المتحدة الاميركية ولبنان ودرجة النضوج التي بلغها النظام الاقتصادي الحر في كل منهما، فإننا إذا تمكنا من دراسة وتحليل التجربة الاميركية في تطور النظرة والتفكير الاقتصادي، أختصرنا مراحل تطور نظامنا الاقتصادي الحر نحو النضوج والحداثة. لذلك، استناداً إلى ما كنا نعانيه من سلبيات تخلف قطاعنا العام، وإلى معاني تجارب الدول التي تتشابه نظمها الاقتصادية مع نظامنا، يمكننا القول إن مستقبل لبنان الاقتصادي يكمنُ في قدرتنا على بناء قطاع عام متطور يلبي احتياجات المجتمع التي تفوق قدرة القطاع الخاص ليكون السند الاكيد للانسان في لبنان المشجع لبلورة مبادرتهِ الفردية وانتهاجه النظام الاقتصادي الحر.

لقد أدى تخلف دور القطاع العام وتراجعه كمساند للقطاع الخاص، بعد أنتهاء الحرب الداخلية في العام 1990، إلى انتشار عناصر الفوضى والاحتكار في نظامنا الاقتصادي الحر. وقد اخطأ اللبنانيون التقدير حين حاولوا تجاوز عناصر الفوضى هذه وكأنها لا تعنيهم بتاتاً، مستمرين في الاعتماد كلياً على قدرتهِم الفردية، مما عمقَ درجة تخلّف القطاع العام وتفاقم الفوضى إلى حدودٍ غير مسبوقة أوصلتنا إلى الانهيار الشامل.





وعززَ هذه الفوضى وزادها رسوخاً انحراف المبادرة الفردية نفسها إلى نزعات انفرادية في التفكير والعمل تجلّت في مختلف مرافق الحياة، بحيث أن نجاح اللبناني في العمل الفردي لم يرافقهُ يوماً أي نجاح في العمل الجماعي المنسجم والمتكامل.

رؤية حديثة وبعيدة المدى

من الصعب كسر طوق هذه الحلقة الشيطانية المفرغة، إلا من قبل قيادة سياسية/اقتصادية ذات رؤية حديثة وبعيدة المدى، واضحة، وعميقة، قيادة لم يهتم أحد جدياً ومنذ عهد الاستقلال لايجادها أو دعمها، بل ربما قاومَ الكثيرون نشوءها، ولم تستطع هي أن تفرض نفسها، غير مدركين بما فيه الكفاية، أنها مطلب حيوي وأساسي لاستمرارية وأزدهار لبنان وتطورهِ. إن مستقبلنا الاقتصادي يعتمدُ إلى حد بعيد على قدرة اللبنانيين على افراز هذه القيادة المتطورة التي يمكنها وحدها أن ترسم معالم لبنان الحديث.

على عكس ما يشاع وينشر هنا وهناك في وسائل الاعلام المحلية والعالمية، يمكن للازمة المدمرة التي لحقت بلبنان أن تشكلُ منطلقاً جديداً نحو بناء لبنان الحديث. لقد خسرت المانيا الاتحادية واليابان الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء في العام 1945 ولكنهما ربحتا الحرب الاقتصادية عليهما في ما بعد، لأن كل منهما اعادت بناء اقتصادها على أحدث الأسس العلمية الحديثة وليس الفوضى. لذلك يرتبط مستقبل الاقتصاد اللبناني بقدرة الانسان على اعادة البناء معتمداً على أحدث الدراسات والابحاث التي توصل اليها المفكرون والباحثون في العالم اليوم. ومبدأ البناء يتطلب قبل كل شيء وضع الأسس المتينة واعتماد البرامج الشاملة وانتهاج سياسات قطاعية متوازية تمحي الطابع العشوائي عن اقتصادنا الوطني وتوجد الظروف الصالحة التي تصون المبادرة الفردية.





الخطيئة الكبرى في لبنان هي أعتمادهِ على الاقتصاد الريعي، وخاصة السياحة والخدمات كمصدر اساسي للنمو الاقتصادي، منافياً بذلك أبسط القواعد الاقتصادية التي تدعو إلى تشجيع مختلف القطاعات الانتاجية مثل الزراعة والصناعة ودعمها… فماذا يفيد المزارع في المناطق الجبلية وصول مليون ونصف سائح الى لبنان خلال فصل الصيف؟ ما يريدهُ المزارع بسيط وبسيط جداً وهو رعاية الدولة اللبنانية لهُ من خلال تأمين تصريف منتجاته الزراعية بأفضل الاسعار مما يؤمن لهُ الاستمرارية للمواسم المقبلة. الأمر نفسهُ ينطبق على الصناعي الذي يواجه صعوبات اكان في التصنيع أو التصدير نتيجة ارتفاع كلفة الانتاج والمنافسة الخارجية لسلعهِ.

لقد ادى استمرار الازمة الاقتصادية لغاية تاريخهِ إلى هجرة العديد من العناصر اللبنانية المبدعة إلى الخارج سعياً وراء مستقبلٍ مهني أفضل. وبينما شملت الهجرة في الماضي أولئك الذين لم يتمكنوا من اقتحام ميدان العمل التنافسي، لعدم القدرة أو لسوء الحظ، فالذين سافروا خلال أزمتنا الحالية ضموا قسماً وفيراً من أقدر الافراد الذين يستطيعون العمل والنجاح الأكيد أينما حلوا في مراكز العالم الاقتصادية الرئيسية. وقد أستطاع هؤلاء بفضلِ كفاءتهم ومهارتهم العالية أن يعوضوا جزءاً على الأقل مما أصابهم من خسائر باهظة في الدخل وسلكوا طريقاً ناجحاً بالرغم من الازمة. هؤلاء اللبنانيون، افراداً ومؤسسات وشركات، مدعوون إلى العودة فور استتباب الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، لأن نشاط هذا الجسم الاستراتيجي والحيوي سيدفع بعجلة الحياة الاقتصادية إلى المباشرة الفورية في التحرك من جديد وسيختصر فترة النقاهة وسيضع لبنان مجدداً على طريق الازدهار والحداثة.

لقد برهنت الازمة الاقتصادية الراهنة أنهُ لا بديل عن لبنان. إذ يمكن لأي دولة أعلان أي نظام اقتصادي جديد بمرسوم، إلا أن طبائع الشعوب وشخصيتها وأنفتاحها وقدرتها على التكيف لا يمكن احداثها بين ليلة وضحاها. صحيح أن الازمة الراهنة عطّلت إلى حد كبير دور لبنان الاقتصادي في العالم، ولكنها فشلت في الغائهِ لانعدام وجود من يقوم به على المستوى نفسه من الجودة والاتقان. ولعل في ذلك ضمانة أن لبنان متى نَفضَ عن نفسهِ غبار الازمة السوداء سيستأنف فوراً لعب دوره الاقتصادي الريادي ويستعيد مركزه المميز والطليعي بين الشعوب والامم. القرار الأول والنهائي هو عند الشعب اللبناني، الذي عليه الخروج من الانانية المفرطة والبحث جدياً عن السبل الكفيلة بالعودة تدريجياً، كما ذكرنا، إلى الخريطة الاقتصادية العالمية التي سبقتنا باشواط وأشواط.