البروفسور نسيم الخوري- الدولة هي حدود الدولة

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, March 28, 2023

نصّ دستور الطائف على أنّ "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء". وردت كلمة "السلطة" السياسية بصيغة المفرد وهذا أمر عجيب وغريب ومستحيل في لبنان حيث السلطة سلطات والولة دول طائفية يستحيل تعدادها وألوانها ومراميها ومرابطها ومراجعها وإجهاضاتها وارتباطاتها بما يشلّ جوهر الديمقراطية بسلطاتها التشريعية والإجرائية والقضائية وما يتبعها أو يتفرّع عنها من سلطات لا يمكن حصرها في لبنان ولن يقوى رئيس أو مجلس وزراء على فهمها قبل ضبطها.
هناك نظام دقيق في جيوش العالم يفرضّ المهام والقوانين والإحترام والتحيات والمهمات الخارجية، وهناك ألبسة ورتب موحدة منظمة وتنشئة وأعمدة ومواقف ووظائف وهي تشكّل كلّها الأعمدة الفقرية للبلدان والشعوب وأمنها وسلامتها إلاّ لماماً وكلاماً في لبنان.
ما المُبرّر لفعل خضع؟؟ وكيف يكون الخضوع تامّاً أو جزئيّاً وما المقصود بالخضوع؟
لنفكّر معاً بمصطلحات رجال السياسة المرتجلة الطائفية ولنفكّر بجيوشهم بمعنى ميليشياتهم وأحزابهم وأزلامهم وحاشياتهم ولبنانهم المقطّع الأفكار والأوصال؟
لو فسّرنا الفعل "خضع" فهو يحتمل معان وتفسيرات قاسية ومُهينة ومرفوضة في وقعها على الآذان الشعبية والعسكرية بالطبع التي تعتمد مقولة الأمر والواجب والطاعة. يكفي إيراد المقولة التي تقول منذ الإغريق بأنّ:" حدود الدولة هي الدولة". ماذا تعني الدولة السائبة بين سياسات الداخل الخارج الذي يتجاوز الداخل، وأين يقع الجيش وما هي وظائفه في الدول السائبة التي تكرج على ألسنة سياسييها ونصوصهم بكونها "الساحات" ؟
ناقشت رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني وبعض برلمانيي الطائف،عن الفلسفة أو السرَ باعتماد فعل "خضع"، وفهمت أنهم بإصرارهم على خضوع العسكر للسياسيين كانوا يقصدون اجتثاث "تمرّد الجنرال ميشال عون" بقصر بعبدا في ال1989. لا تُبنى الدساتير بالأحقاد بين رموز السلطات.
قال الحسيني:كنت أرفع السدّ الذي يحرم أيّ قائد جيشٍ آخر التفكير بقصر بعبدا، مع أنّ التجارب اللاحقة أسقطت إصراره هذا وأوصلت ثلاثة قادة للجيش اللبناني إلى بعبدا أعني إميل لحود، ميشال سليمان بتعديل الدستور، وميشال عون، وكانت شياطين السياسة بالمرصاد لهم جميعاً.
كان يمكن إعتماد فعل"يتبع" مثلاً بدلاً من "يخضع" لأنّ الجيش لا ولن يلوي عنقه للسلطات في العالم، وخصوصاً لتلك التي أفرزت وتُفرز اللبنانيين جيوشاً مذهبية لا عدّ لها يبدو فيها لبنان وكأنه في خانة الأنظمة الأحادية والديكتاتورية والمشلّعة حيث الأهوال والمصائب المزمنة أمامنا نتدثّر بها إلى دهر الداهرين .... وإملأوا الفراغات.... بالصفات ال؟؟؟؟ لأن السياسيين طبقة فاسدة رخوة منقوعة بالإمتثال والطاعة والعناد لأوامر الخارج كلّ خارج، وهي أبداً بانتظار إشارات الأصابع الدبلوماسية الآمرة فيحنون رؤوسهم متمتمين صاغرين: نعم.
وهنا قصة:
جمعتني علاقة بوزير الخارجية الفرنسية جان فرنسوا بونسيه كان راعيها مدير مكتبه ميشال ميناشوموف من أصلٍ بولوني . تعمّقت تلك العلاقة لأنّ الرجلين كانا منهمكين بل مسكونين بدوائرهما الواسعة بأوضاع لبنان في الثمانينيات التي ترنّحت بصور اللهيب وحصارات المدن والحروب التي جاءت حصيلتها أكثر من 150 ألف قتيل وجريح ومعاق ومشوّه وسجين... أراها اليوم تستيقظ في الذاكرات والهواجس.
كان يمكن أن أعاين أو أتألّم بوضوح حجم القيود والبرودة التي غالباً ما تحكم أحاديث الدبلوماسيين وممثّلي الدول عندما يدور النقاش حامياً وتقوى محاولات الإقناع حول وطن المناقش المسكون بهموم مواطنيه وأهله وحدود بلده والمستقبل بكلّ أخباره وإيحاءاته المخيفة.
تعثّرت تلك العلاقة في ال1984 وأُوصدت الأبواب الدبلوماسية على نصيحة مدير المكتب الذي قال بحزمٍ وحزنٍ إذ رأى الحقائب والصناديق الجاهزة مشقوعة في منزلي الباريسي متأهباً للعودة النهائية إلى جحيم لبنان:
"للجيوش في بلادكم أدوار ومسؤوليات لم ولن تنتهي على الأطلاق في المستقبل المنظور، وينسحب هذا الأمر على البلدان المتنوعة حول تلك البحيرة الحمراء المتعكّرة الجاذبة للقوى العالمية تسمّونها البحر الأبيض المتوسط. الجيوش أرقى وأنظم من سياسيي لبنانكم".
قد تحمل النصيحة أرجحيةً مُقنعة لأغلبية المواطنين الذين ما انخرطوا أو مالوا الى الأحزاب التي تقاسمت الوطن وتوزّعت المناصب والصلاحيات والمكاسب ليبدو أوطاناً مشتتة والشعب شعوباً متفرقة، فكانوا وما زالوا يجدون أنفسهم في الملاذ المُتمثّل بالمؤسسة الخضراء.
هذا واقع لا فرضية يمكنني دعمها متحدّياً باللجوء لاستفتاءٍ عام لنؤكّد صورة الجيش لدى المواطنين في بلد تراخت مفاصله وتداخلت فيه هيبة السلطات وتحاشرت وهزلت حتّى عمّ الفراغ العام في المؤسسات وتمدّدت الفوضى العارمة من جديد وصار الفساد المستشري والفراغ وتبادل القهر عناوين الحياة. لا إمكانية بانتخاب رئيس جمهورية والحكومة مكبّلة بتصريف الأعمال بصلاحيات مرتجلة عبر الدستور المُفرغ من معانيه والمتشظّي بالإجتهادات والآراء المتناقضة الضيقة والضرورية والملحّة وحطّت المصائب رحاها في أحضان السلطات القضائية المترنّحة بدورها وكأنها سلطات فضائية بالفاء وبلا ألف ولام تتلاعب بها أهواء السلطات المتعددة ورياحها وعواصفها وتتقاذفها الأحزاب والطوائف كراتٍ لنراها تخضع خضوعاً تاماً لسلطات وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية بسطرٍ من رأس السلطة الوزارية. دخل المشهد الديمقراطي للأسف أنموذجاً لكلّ عجيبٍ وغريبٍ ومُفاجيء، ويتشلّع الدستور بين مخالب النسور ولتدفن إمكانيات الحوارات والديمقراطيات والأوطان.
ما الجديد؟
تحوّلت تلك الرقع المذهبية إلى فسيفساء دموية وفوق كلّ مربّع منها مجموعة محصنة تتأهب للخطف والتشليح والإعتداءات والتهريب والسرقات في ما يتجاوز التصور. يغلب على الألسنة والعقول الباحثة عن خلاص لبنان المطالبة بالجيش منقذاً بجهوزيته الملحوظة خروجاً من الكلام المعلوك في المؤسسة الخضراء والإدانة والتهدئة والأمن بالتراضي...إلخ.