د. هشام الأعور- حياد لبنان وعقدة التاريخ

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, January 31, 2023

عشيّة المئويّة الأولى (1920-2020) لإعلان “دولة لبنان الكبير” في الأول من ايلول، خرج بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكاردينال بشارة بطرس الراعي عن مسار المواقف السياسية التقليدية ليتوجه في عظة الخامس من تموز 2020 بنداء الى منظمة الأمم المتحدة مطالباَ اياها بـ “العمل على اعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدوليّة وإعلان حياده”.
ليس من قبيل الصدف أن يتزامن الاعلان عن مذكرة “لبنان والحياد الناشط” من الصرح البطريركي في الديمان مع حلول الذكرى المئويّة الأولى لولادة الكيان اللبناني في الوقت الذي تتراكم فيه الأسئلة اللبنانيّة والتي تكاد تلتقي عند سؤال الصيغة التي ستحكم لبنان في المرحلة المقبلة بعد أن ارتضى اللبنانيّون بلبنانهم كياناً نهائيّاً لهم عقدوا العزم على ميثاق عيشهم المشترك، هذا الميثاق الذي عاد وتكرّس عند الاستقلال ومن ثمّ في وثيقة الوفاق الوطني سنة 1989.
الحياد بشكل عام هو كناية عن عدم التحيّز إلى أجل محدود. كما يعني الرغبة في التجرد والإمتناع عن مناصرة فريق على آخر. أما من الناحية السياسيّة، فيعتبر الحياد امكانيّة من امكانيّات الخيار، الذي يحقّ للدولة اللجوء اليه، عند نشوب نزاع مسلح لا يعنيها، او لا يتعلق بمصالحها بشكل مباشر. فالنزاعات العسكريّة والحروب التي حدثت في الماضي، وضعت الدول المستقلة أمام خيارين: إما الإشتراك في هذه النزاعات والحروب، والتحالف مع أطرافها، وإما الإمتناع عن الاشتراك فيها، والبقاء بعيدا عن مسرح الأحداث القائمة.
إن الخيار الثاني، أي الحياد قد ينسجم في غالب الأحيان مع المنافع والمصالح المباشرة للدول. فبعض الدول لم تكترث بالنزاعات بسبب بعدها عن مسرح الأحداث، مثال الحياد الأميركي، منذ الاعلان عن مبدأ مونرو عام 1823 وفي العام 1917. وبعضها الآخر لم يجرؤ بسبب امكاناته الضعيفة على الانجراف نحو الحرب والمشاركة فيها ورغم تعاطفه مع أحد اطراف النزاع، كموقف الدانمرك في حرب 1870 الأوروبية. والبعض الآخر إتخذ موقف الحياد لإعتقاده أن موقفه هذا، سيؤمن له مصالح ومنافع اقتصادية وتجارية، كالاتحاد السويسري والسويد.
وبالنسبة الى القانون الدولي فهناك نوعان من الحياد: حياد عادي موقت، وحياد دائم. الأول مؤاداه عدم اشتراك دولة ما في حرب قائمة بين دولتين أو أكثر، وامتناعها عن تقديم المساعدات لأيّ من فريقَي القتال، مقابل عدم زجّها في القتال القائم وتجنيبها آثاره من دمار وخراب. ويقسم الفقهاء في القانون الدولي هذا النوع إلى أشكال عدّة منها: حياد كامل، حياد ودّي، حياد مسلح، حياد مشروط، حياد عام وخاص، حياد إيجابي، حياد واقعي وثانوي. أما النوع الثاني، أي الحياد الدائم، فيقتضي بموجبه بقاء الدولة بعيدة عن مطلق حرب يمكن أن تقع بين غيرها من الدول، ويقابل ذلك امتناع الدول المتحاربة عن الإعتداء عليها بأيّة صورة كانت. فالحياد العادي يعتبر مجرد موقف من قبل الدولة التي تتخذه. وتستطيع متى شاءت أن تكون في حلّ منه، بينما الحياد الدائم يعتبر مركزاً قانونيا يُقيّد الدولة التي توضع فيه لجهة بعض نواحي سياستها.
لم تكن الدعوة لتبنّي نظام الحياد في لبنان وليدة أحداث سنة 1975، وما تلاها من فصول. بل ظهرت في مطلع العشرينات أثناء وضع الدستور اللبناني حين دعا عضو المجلس الاداري للبنان سليمان كنعان الى تبنّي “نظام الحياد تضمنه الدول الكبرى”. وأكد في مذكرة رفعها الى فرنسا، أن اللبنانيين يتمنون “حفظ حيادهم السياسي والعسكري بضمان من الدول الكبرى”. كما شرح فيها الدور الذي يجب أن تقوم به فرنسا في سوريا ولبنان. وتأكدت هذه النزعة سنة 1943 حيث أعلنت حكومة الاستقلال أنّ ” لبنان يلتزم الحياد بين الشرق والغرب”، قبل أن يتمّ التشديد عليها ابان ثورة 1958 التي انقسم فيها المسلمون والمسيحيون بين تيارات سياسية وايديولوجية متناقضة، فالمسلمون وجدوا في التيار الناصري والوحدة مع سوريا ضامناً لحلمهم القديم في الوحدة العربيّة الشاملة. بينما وجد المسيحيّون أنفسهم مجدّداً أمام خطر الاندماج في وحدة عربيّة يمكن أن تعيد النظر في امتيازاتهم ووضعهم في لبنان. وفي ظلّ هذا الإنقسام الحاد، اقترح رئيس الجمهورية شارل حلو حيادا قانونيا دائما على الطريقة النمساوية معترفا ومضمونا دوليا، وقد سار على المنوال نفسه رئيس حزب الكتائب بيار الجميل في العام 1959 فتقدّم بمشروع الى مجلس الوزراء حول “إمكانات حياد لبنان الدائم”، كما دعا وزير الخارجيّة شارل مالك الى حياد لبنان بعد الاعتداءات الاسرائيليّة المتكرّرة عللى لبنان ولا سيما بعد الإنزال العسكري الذي نفذته “إسرائيل” في مطار بيروت أواخر العام 1968.
وخلال حرب السنتين، أي في النصف الأول من عهد الرئيس سليمان فرنجية، انقسم اللبنانيّون بين مؤيّد ومعارض للعمل الفدائي الفلسطيني من الأراضي اللبنانيّة بعد توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969، وبالتالي بين داع ورافض لإشراك لبنان في الصراع مع”اسرائيل” لترتفع الدعوات مجددا والمطالبة بحياد لبنان وكان أبرزها دراسة أعدّتها جامعة الروح القدس الكسليك وفيها مطالبة “بتحييد لبنان بناءً على نظام خاص شرط أن يكون طابعه ملازما لعلاقاته مع العالم العربي على غرار سويسرا والنمسا اللتين تؤكدان في وثائقهما الرسمية انتماءهما الى الحضارة الغربيّة”.
وفي مرحلة ما بعد الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982 توالت الدعوات الى تبني نظام الحياد، فاعتبر النائب حسين الحسيني أن الحياد يحقق أمورا كثيرة منها: “يحول دون إبرام اي أتفاق مع إسرائيل في الحقل العسكري خصوصاً ويحمي حدود إسرائيل الشماليّة بعمق مؤلف من الدولة المحايدة، ويسمح بإخراج المقاتلين الفلسطينيّين والقوات السوريّة من لبنان بصورة طبيعيّة، ويؤمّن لسوريا حماية حدودها مع لبنان بعمق مؤلف من الدولة المحايدة، ويحفظ علاقات لبنان السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة بمحيطه العربي، ويوفر على لبنان قيام جيش عصري كبير ليس بمقدوره الأقتصادي تحمّل أعبائه”. ويتابع الحسيني بالقول: “بهذا المخرج الحلّ ينسحب لبنان من معاهدة الدفاع العربي المشترك، وهو الذي اعتبر في جميع مقررات القمم العربيّة دولة مساندة وليس دولة مواجهة”.
إن إبراز محاسن فكرة الحياد سرعان ما تعود بتعابير مختلفة في الخطب الرسمية والبيانات الوطنية وهيئات الحوار وصولا الى 12 حزيران 2012 مع “إعلان بعبدا” في عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان وقد تضمن بوضوح عبارة “تحييد لبنان”. وأرسل هذا “الإعلان” إلى منظمة الأمم المتحدة، وتمّ توزيعه كوثيقة رسميّة من وثائق مجلس الأمن والجمعية العامة، وصدر عن مجلس الأمن بيان بتاريخ 19/3/2015 يدعو الأطراف اللبنانية الى التقيّد بما ينص عليه هذا “الإعلان”.
اليوم، يدور لبنان في حلقة مفرغة من الاستنزاف والعجز السياسي والتأزم الاقتصادي المرهق وسط حالة مستعصية من العقم الفكري والثقافي وإفلاس النظام السياسي. بالمقابل يبدو كل شيء بالنسبة للبطريرك الراعي منطقيّاً من حيث يقف ويتطلع، وهو الذي تجاوز من خلال دعوته إلى تبنّي فكرة “الحياد الناشط” كلّ المألوف ونقل الأزمة من مستوى أزمة ماليّة واقتصاديّة إلى أزمة سياسيّة وطنيّة، ونقل النقاش إلى مسائل وحلقات ومواقع كبرى حسّاسة واستراتيجيّة ترتبط بمستقبل لبنان ودوره وسياسته الخارجيّة.
إنّ التدقيق في مذكرة “لبنان والحياد الناشط” تستدعي التركيز على كلمة المفتاح وهو ما عبّر عنها البطريرك الراعي من خلال ما أسماه “السياسة الحكيمة” التي وبفضلها “تمكّن لبنان من المحافظة على وحدة أراضيه رغم مشاريع الوحدة العربية، ورغم جميع الحروب العربية /الإسرائيلية. فجميع البلدان المتاخمة لإسرائيل (سوريا، الأردن ومصر) خسرت أجزاء من أراضيها باستثناء لبنان”. وهذا يعود بالطبع – وفق المذكرة – إلى انتهاج لبنان سياسة التحييد النسبي عن صراعات المنطقة ما بين 1943 و1975 والتي أدّت “إلى الإزدهار والبحبوحة وزيادة النموّ، وارتفاع نسبة دخل الفرد، وتراجع البطالة حتى دُعي لبنان سويسرا الشرق”. قبل أن تعود وتتعكر الأجواء والتي تحمّلها المذكرة للسياسات العربية وخصوصاً بعد محاولة الرئيس المصري جمال عبد الناصر ضمّ لبنان الى الوحدة المصرية – السورية، وتعرض التوازن اللبناني للانتكاس مع دخول العامل الفلسطيني الى المعادلة الداخليّة وانطلاق العمل المسلح الفلسطيني في لبنان وإنحياز فئة من اللبنانيين إليه، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى نشوب الحرب سنة 1975، وتوقيع لبنان سنة 1969 “اتفاق القاهرة” الذي سمح للمنظمات الفلسطينيّة القيام بأعمال عسكرية ضدّ “اسرائيل” انطلاقا من الجنوب اللبناني، لتعود “اسرائيل” وتحتل جنوب لبنان (1978-2000) وسيطرة المنظمات الفلسطينيّة على الجزء الباقي وصولا إلى وسط بيروت (1969-1982)، ودخول القوات السورية لبنان (1976-2005)، ونشوء حزب الله حاملاً مشروع الجمهوريّة الاسلاميّة الإيرانيّة بأوجهه الديني والعسكري والثقافي (1981-…).
يرى البطريرك الراعي أنّ جميع هذه الأحداث السالفة الذكر وقعت “بسبب خروج لبنان عن سياسة الحياد المتعارف عليها من دون نصّ دستوري. هكذا فقدت الدولة سلطتها الداخلية، والكيان سيادته الحدودية، والوطن دوره السياسي والصيغة توازنها، والمجتمع خصوصيته الحضارية. ونتجت عن هذا الاختلال صراعات جانبيّة داخليّة لا تقل ضراوة عن الحروب الأساسية. وها لبنان يترنّح حاليا بين الوحدة والانقسام”.
هكذا كشفت تجربة المئة سنة (1920-2020) من حياة دولة لبنان الكبير بالنسبة الى البطريرك الراعي عن حقيقة خرج فيها بأطروحة تؤكد على أنه يتعذّر على لبنان أن يكون وطن الرسالة من دون اعتماد نظام الحياد الذي يشكل ضمان وحدة لبنان وتموضعه التاريخي في هذه المرحلة المليئة بالتغيرات الجغرافية والدستورية، “فحياد لبنان الناشط” هو قوة لبنان وضمانة دوره في استقرار المنطقة، وتعاطف لبنان مع قضايا حقوق الانسان وحرية الشعوب العربيّة، والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني لا سيما أولئك الموجودين على أراضيه، والحفاظ على رسالة لبنان في محيطه العربي التي يتبسّط فيها الإرشاد الرسولي للقديس البابا يوحنّا بولس الثاني “رجاء جديد للبنان” واتخاذ مبادرات للمصالحة والتقارب بين مختلف الدول العربيّة والاقليميّة وحلّ النزاعات، وجعل لبنان بفضل ميزته التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة حكماً أرض التلاقي والحوار بين الديانات والحضارات والثقافات، وتعزيز الدولة اللبنانيّة لتكون دولة قويّة عسكريّاً واقتصاديّاً، والإسراع الى معالجة الملفات الحدوديّة مع “إسرائيل “على أساس خط الهدنة، وترسيم الحدود مع سوريا أيضاً، والدفاع عن حقوق الدول العربيّة وقضيّة السلام وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقع لبنان على شاطئ المتوسط.
وبصرف النظر عن حجج الرافضين لمذكرة “لبنان والحياد الناشط” أم الداعين لها، وبصرف النظر عمّا يمكن أن تدعم هذه الحجج مواقف اصحابها أم لا، فإنّ لحياد لبنان معوقات كثيرة تقف في وجه إمكانيّة تبنيه وتطبيقه. فحقيقة أهداف سياسات الدول الكبرى تجاه لبنان لجهة الموقع والدور والثروة النفطيّة التي يمكن أن يستفاد منها، إضافة إلى عمليّات التجاذب في ما بينها حوله، تعتبر من أبرز المعوقات الدوليّة. معطوفة على معوقات إقليميّة، وتظهر بالدرجة الأولى عبر استغلال بعض الدول الفاعلة في المنطقة للازمة اللبنانيّة، واصرارها على حل الأزمة بموازاة حلّ أزمة الصراع العربي – الإسرائيلي.
وكما أنّ لهذه المعوقات الخارجيّة دوراً بارزاً في صعوبة تبنّي نظام الحياد، فإنّ للوضع اللبناني الداخلي أسباباً عدّة أخرى تضاف إلى سابقاتها، وأبرزها احتلال “إسرائيل” لبعض الأراضي اللبنانيّة، والتوزيع الديمغرافي للسكان فيه.
لذلك إنّ السؤال الكبير الذي نطرحه اليوم على عرّاب لبنان الكبير البطريرك الياس الحويك هو الآتي: طالبت في “مؤتمر فرساي” سنة 1919 بإنشاء “دولة لبنان الكبير” إستناداً إلى معطيات ديمغرافيّة وأمنيّة واقتصاديّة كانت قائمة إثر سقوط السلطنة العثمانيّة. هل تطالب بمذكرة “لبنان والحياد الناشط” لو قيّض لك ان تذهب إلى “مؤتمر فرساي” جديد سنة 2023 بينما المعطيات مختلفة كليّا عمّا كانت عليه آنذاك؟
حسبي أنّ “حياد لبنان الناشط” عند البطريرك الراعي ليس سؤالاً ولا خياراً. إنّه لبنان. ولكن هذا لا ينفي حقيقة ان مصلحة لبنان الاقتصاديَّة الأكيدة هي في الانضواء الكامل في التعاون مع الدول العربية والانفتاح على الشرق كما على الغرب أمَّا طرح الحياد فهو تنازلٌ عن المصلحة الاقتصاديَّة الصرفة لصالح “التعايش” بين الطوائف اللبنانيَّة، والاكتفاء بتحفيز اللبنانيين على زراعة البقدونس على الشرفات!