عماد الدين أديب - الفريضة الغائبة: "كلّنا أوّلاً"

  • شارك هذا الخبر
Sunday, January 29, 2023

يُخطئ من يعتقد أنّ شعار "بلده أوّلاً" هو الحلّ الوطني السحريّ لإنقاذ البلاد والعباد من التورّط في أيّ صراعات.

"الفكر الانعزالي السياسي" وعدم الاكتراث بالأخطار الإقليمية والصراعات الدائرة ليسا هما الحلّ في عالم تتداخل فيه المشكلات مع المصالح، مع المخاطر، مع التبعات الاقتصادية.

تعالوا نقرأ التاريخ في المئة عام الماضية.

لم تتمكّن بريطانيا من الوقوف مكتوفة الأيدي أمام الغزو الألماني للنمسا في بدايات الحرب العالمية الثانية.

ولم تستطع الولايات المتحدة الانعزال في آخر فصول الحرب العالمية الثانية والتقاعس عن نجدة أوروبا أمام هجمة هتلر.

ولم يستطع روزفلت إلا أن يستخدم القنبلة النووية ضدّ هيروشيما وناغازاكي.

ولم تستطع الصين أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الغزو الأميركي لفيتنام.

ولم يستطع تحالف أكثر من 50 دولة إلا أن يرسل قواته إلى السعودية لتحرير الكويت من غزو صدّام.


نحن بحاجة ملحّة إلى التعاضد في هذه الأيام الخطرة والصعبة، لكن بأسلوب أكثر واقعية وأكثر منطقية بعيداً عن الشخصانية أو الرشى السياسية

وفي الاقتصاد أدّت أزمة العقارات في الولايات المتحدة عام 2008 إلى إحداث ركود عالمي من الصين إلى اليمن ومن الإمارات إلى بريطانيا.

وأدّت أزمة بنك سويسري إلى التأثير على اقتصادات أربع دول أوروبية.

وأدّى انخفاض الإنتاج الصناعي الصيني إلى التأثير على اقتصاد 11 دولة وانخفاض عائدات رسوم العبور في 3 ممرّات مائية.

وأدّى قرار "أوبك بلاس" منذ عامين إلى عدم زيادة الإنتاج ثم إلى رفع سعر الغالون في الولايات المتحدة وأوروبا الذي أدّى بدوره إلى رفع معدّلات التضخّم والبطالة.

وأدّى قرار الاحتياطي الفدرالي الأميركي رفع نسبة الفائدة إلى الضغط على قيمة اليورو والين واليوان والإسترليني وأكثر من 40 عملة محليّة.

وأخيراً أثّرت العقوبات الدولية على روسيا وإيران وفنزويلا في رفع قيمة أسعار الطاقة ومشتقّاتها الذي كبّد الاقتصاد العالمي أكثر من نصف تريليون دولار.

يؤثّر على منطقتنا تشدُّد الحرس الثوري في إيران وتداعيات امتداداته في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، إذ يُسقط نظام طهران حكومة في بغداد، ويمنع أخرى في بيروت، ويدعم ثالثة في صنعاء ودمشق ويزيد التوتّر في غزة.

يؤثّر نشاط داعش في سوريا على سلامة الأنظمة في الأردن والعراق وفلسطين وغزّة وسيناء.


يخلق استمرار القبول بالاحتلال المسلّح حالة من قبول الضمّ وتغيير الهويّة، ويخلق فضاءً عربياً مُستباحاً يغري بالانتقال من مركز جغرافي إلى آخر

يؤثّر الدور التركي في طرابلس بليبيا وفي الموصل بالعراق وفي شمال سوريا على الأمن القومي العربي كلّه، ويُمهّد الطريق إلى ضمّ "وتتريك" الكثير من الأراضي العربية بالقوّة المسلّحة.

يخلق استمرار القبول بالاحتلال المسلّح حالة من قبول الضمّ وتغيير الهويّة، ويخلق فضاءً عربياً مُستباحاً يغري بالانتقال من مركز جغرافي إلى آخر.

من هنا، ومع تقديرنا للمنطق القائل إنّ كلّ نظام مسؤول بالدرجة الأولى عن حماية واستقرار ورفاهية وأمن مواطنيه قبل أيّ شيء آخر، وهي نظرية منطقية يستحيل الجدل فيها، إلا أنّ النظام الكوني الحالي خلق، رغماً عن الجميع، حالةً من التداخل والتأثير والتأثّر والتفاعل التي لا يمكن تفاديها.

لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي أمام انهيار نظام لأسباب أمنيّة، أو سقوط حكومة بسبب عوز وعجز ماليّ، أو اختراق حدود بلد بسبب جنون ومطامع لاعب إقليمي مهووس.

لا يمكن أن نقول إنّ التطرّف الديني والتوحّش الطائفي هما أمران محليّان لا يمكن تصديرهما أو يمكن السكوت عليهما وعدم مقاومتهما في مهدهما.

لا يمكن أن نقول إنّ الخطر البعيد اليوم لا يعنيني، وإنّ تأجيل مواجهته هو الحلّ.

لا يمكن أيضاً القبول بمنطق "ساعدونا وإلّا الخطر سيهدّدكم".

المطلوب الآن هو التكاتف لمواجهة المخاطر الأمنيّة من الجنون الإقليمي والاضطراب الدولي إلى الصراعات الإقليمية والمخاطر الاقتصادية الطاحنة، لكن يجب أن يتمّ التدخّل والدعم والتكاتف على نحو عاقل ورشيد، ومن الأفضل أن يكون شفّافاً وبعيداً عن العطايا النقدية، لكن من الممكن أن يكون عينيّاً أو قائماً على مصالح متبادلة واضحة تمتزج فيها المصالح العليا بمشاعر التضامن والتكاتف.



انتهى عصر الدعم المجانيّ، لكن من الممكن أن تكون المساعدات إنسانية أو موجّهة بشكل واضح إلى مستحقّيها أو وفق شروط تفضيلية أو شروط مُيسّرة غير متوحّشة مثل شروط الاقتصاد الرأسمالي المعدوم القلب والإنسانية.

نحن بحاجة ملحّة إلى التعاضد في هذه الأيام الخطرة والصعبة، لكن بأسلوب أكثر واقعية وأكثر منطقية بعيداً عن الشخصانية أو الرشى السياسية.

تلك هي الفريضة الغائبة والضرورة التي لا بديل عنها.