لبنان إلى أين سياسياً واقتصادياً في مطلع العام ٢٠٢٣ ؟ الجزء الرابع والعشرون

  • شارك هذا الخبر
Saturday, January 28, 2023

*

*حمود* :
ها قد دخلنا في الأسبوع الرابع والأخير من الشهر الأول من هذا العام الجديد الذي كان معظم اللبنانيين يأملون أن يحمل معه تباشير الحلول والإنفراجات في لبنان على كل الصعد السياسية والإقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية والإجتماعية. لكننا وكما المريض الذي يتعلّق بحبال الهواء على أمل الشفاء والتعافي، تفاجأنا بأن الرياح التي يحملها لنا هذا العام رياحٌ شريرة، مدمّرة وعاتية، وان السماء تُمطرنا بحجارةٍ من سجيّل وأن طيور ابابيل ساسة وزعماء لبنان وبعض قضاته لن تبقي لنا اي باب للخروج من أي من الأزمات والمآسي التي نتخبّط بها منذ اكثر من ثلاث سنوات، بحيث أننا بدأنا نترحّم على السنوات الماضية. فما ظهر حتى الآن من "جبل جليد الإرتطام الحتمي" الآتي الينا بسرعة فائقة والذي اصبح ينتظره الجميع في القريب المُقبل من الأيام في وطننا العزيز سيكمل كما يظهر على من تبقّى من فقراء ومعدومي ومحرومي ومستضعفي هذا الوطن. وكيف لا والمأزق السياسي الرهيب لا يزال على اشدّه من التفاقم والتآزم والتشظي، وكذلك الخلاف الكبير على دستورية عقد جلسات لمجلس الوزراء المستقيل الذي يُصرّف الأعمال. فالوضع الإقتصادي والمالي والنقدي يهرول نحو الهاوية مع الأرقام الخيالية "الغينسية" التي سجّلها الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في الأيام الأخيرة، والجسم القضائي يتزلزل بعنف من داخل تركيبته غير السليمة اساساً لأنها بُنيت على المحاصصة والإستزلام والإرتهان للساسة والزعماء في اغلب الأحيان، وها هو اليوم يتفكّك وينتحر رويداً رويداً، ويتناحر أقطابه فيما بينهم في ظاهرة خطيرة لم يشهدها تاريخ أي بلد وتنبئ بإشعال فتنة وطنية كبيرة، لأن هذا الإنقسام والتراشق القضائي يتنقل كما النار في الهشيم الى الشارع ويهدّد بشكلٍ خطير السلم الأهلي الذي هو اصلاً يعاني من كل حالات الهشاشة والتطرّف والتمترس الطائفي والمذهبي والمناطقي.
لكننا ورغم كل ما حلّ بنا من إرباك وإحباط بسبب كل التطوّرات الأخيرة مستمرّون في مسيرتنا في ملتقى حوار وعطاء بلا حدود، مُنطلقون من مبدأ الإيمان الراسخ ان لا خلاص لنا سوى بإستكمال طريقنا الوطني الجامع والهادف لخلاص هذا الوطن عبر الإستمرار حتى النفس الأخير في زرع بذور المحبة والتآخي والإنفتاح على الآخر وتقبّلّه، والسعي نحو تعزيز قيم المواطنة الصالحة والعيش المشترك، والدفع نحو التلاقي والتكاتف والحوار، عسى ان نستطيع من خلال كل مبادراتنا المتواضعة أن نضيئ شمعة صغيرة في عتمة هذا الوطن الحالكة والقاهرة.
ولذلك، وبعد ان كُنّا قد نشرنا الأجزاء الثلاثة والعشرون الأولى من هذه المُداخلات القيًمة لسياسيين وخبراء إقتصاديبن وحقوقيين واعلاميين، ولباحثين ومفكّرين لامعين من النخب اللبنانية والتي حصدت بأغلبيتها التشاؤم في تقييم الآفاق السياسية والإقتصادية المتوقّعة للعام ٢٠٢٣، ننشر اليوم هذه المداخلة القيمة للباحث والاكاديمي الدكتور بشارة حنا، وهو استاذ جامعي في الرياضيات التطبيقية والاحصاء، انجز حوالي ١٨٠٠ دراسة في مجالات متعددة احصائية وبرامج معلوماتية اقتصادية ونقدية لمؤسسات محلية ودولية، انجز ايضا في العام ٢٠٠٩ مشروع البطاقة الصحية لتأمين الاستشفاء لجميع اللبنانيين، مع فريق عمل من مجلس الوزراء، لكن المشروع لم ير النور نتيجة المناكفات السياسية، أنجز العديد من الدراسات في لبنان والخارج، منها محكمة التجارة الدولية في جنيف وشركة هلسنكي التجارية بالاضافة لإنجاز دراسات عديدة لعدة مؤسسات حكومية ووزارة وادارة عامة، اضافة الى دراسات للبنك الدولي ومؤسسة الضمان الاجتماعي في لبنان، وغيرها من المؤسسات الدولية والمحلية، الخاصة والعامة. يعمل حاليا على الحصول على براءة اختراع في مجال برامج المعلوماتية التي تطبق في التوقعات المستقبلية للعديد من المعطيات الاحصائية. اترككم إذاً مع مداخلة الدكتور حنا التي يمكن تلخصيها بما يلي:
انهيار لبنان سياسي وليس مالي أو نقدي أو اقتصادي ـ انتخاب رئيس للجمهوريه ليس هو الحلّ للخروج من الأزمة في ظل وجود المنظومة السياسية الحالية.


*حنا* :
إعتبر الدكتور بشارة حنا أن هناك عناصر أدت لانهيار لبنان اقتصاديا واجتماعيا و ماليا ونقديا وثقافيا، مستعرضا الدور الرائد للبنان وشعبه في مجال التنمية المحلية وفي منطقة الشرق الاوسط، وتزايد عدد المتعلمين، وتزايد القدرة الانتاجية في الاقتصاد اللبناني عبر الزيادة التي يقدمها الجامعيون؛ والذين وصل عددهم السنوي الى ٣٥ الف خريج جامعي. ومنذ ١٩٩٠ وحتى الان يعمل خارج لبنان اكثر من مليون جامعي، وينتجون ما يزيد على ٥٠٠ مليار دولار سنويا، وربما يصل الى اكثر من ٦٠٠ مليار دولار سنويا، ما كان قد شكل تقدما ملموسا للبنان على الكيان الصهيوني فيما يختص بالناتج الوطني بعد أن تساوى الناتجين في العام ١٩٧٠. فلو كان معظم اللبنانيين يعملون في داخل لبنان، لكان وصل الناتج الوطني اللبناني الى اكثر من ٤٠٠ مليار دولار سنويا.
عنصر آخر أدى الى تفاقم الازمة؛ هو اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في المتوسط، حيث تقدر حصة لبنان منه بأكثر من ٤٠%؛ فتقدر كميات الغاز المكتشفة والمثبتة حتى ( ما قبل ٢٠١٠) بحدود ١٤٣ تريليون قدم مكعب، اي ما يوازي حوالي ٥ تريليون متر مكعب، تبلغ حصة لبنان منها حوالي ٢ تريليون متر مكعب، ومنذ العام ١٩٧٠ وحتى تاريخ ٢٠١٩ ، بلغت نسبة الزيادة السنوية لاحتياط كميات الغاز المكتشفة والمثبتة في منطقة الشرق الاوسط حوالي ٤.٣% ، وتبعا لهذه الفرضية فمن المتوقع أن يحتوي البحر المتوسط خلال ال ٥٠ سنة المقبلة على أكثر من ٤٢ تريليون مترا مكعبا وحصة لبنان منها ( أقله) تقدر قيمتها ٣٦ تريليون دولار اميركي! وربما تصل( تبعا لتصريح نائب رئيس مجلس ادارة شركة توتال) في العام ٢٠٢٠ او ٢٠٢١ الى اكثر من ٣٢ تريليون متر مكعب من الغاز قيمتها حاليا اكثر من ١٩٠ تريليون دولار اميركي.
وهناك دراسة وقعنا عليها (وتم محوها لاحقا )مفادها ان الحروب القادمة سيكون محورها النفط في مختلف مناطق العالم.
وأكمل حنا بالعنصر الثالث وهو الفساد والهدر، فإن ما مقداره ٥٠٠ مليار دولار هدرت خلال ٣٠ عاما مضت، أي بمعدل ١٦ مليار دولار سنويا، كنا قد بيناها في دراسات منشورة ومحاضرات متعددة، وما زال السياسيون والمنتفعون من اموال الدولة ومن ممتلكاتها يسعون للهيمنة على ما تبقى، إذ قدرت قيمة هذه الممتلكات ب ٣٠ مليار دولار كحد اقصى، بينما تبلغ قيمتها الفعلية ( بحسب تقدير كارلوس غصن) ٢٠٠ مليار دولار اذا ما تم تشغيلها واحسان استخدامها اداريا، وقد سعى الساسة إلى تأسيس أكثر من ٥٣ شركة نفطية تسعى إلى الهيمنةعلى مقدرات البلد النفطية، ونهب ما تبقى من مقومات صمود البلد!
أما العنصر الرابع فهو دور المنظمات الدولية في انهيار لبنان، فبعد ان تعاظم الوضع الاقتصادي والمالي الى حدود بدأت تهدد الكيان الصهيوني خلال فترة التسعينيات، بدأت المنظمات الصهيونية المالية العالمية؛ العمل على تهديم ما تم بنيانه في سنوات قليلة، وذلك بشن حروب متتالية على لبنان خلال عام ١٩٩٣ و ٩٦ و٢٠٠٦ الا ان ذلك لم يمنع من النمو المتسارع الذي سجل اكثر من ١٠% خلال سنوات متتالية، بعدها شن أصحاب المؤسسات المالية العالمية هجمات مبرمجة على الاقتصاد اللبناني، وبدأ تصنيف لبنان السيادي يتراجع مع بدء الحرب في سوريا، وهي تقديرات للتصنيف وصفتها دراسات فرنسية منشورة في احدى الجامعات بأن نسبة الخطأ فيها يتجاوز ال ٣٥%! فتراجع تصنيف لبنان تدريجيا، حتى وصل للحضيض، وبدأ تزوير الحقيقة بتقدير الناتج الوطني بأقل من ٥٠% من قيمته الحقيقية، وقد أشرف على ذلك ممثلون للهيئات الأوروبية و الدولية، من خلال تدريب الاخصائيين في ادارة الإحصاء المركزي على اعتماد طرق في تقييم الاقتصاد؛ أصبحت بائدة في اوروبا وفي الغرب، كذلك، دفع هؤلاء؛ المؤسسات المالية اللبنانية إلى اعتماد سياسة اقتراض ودين بالدولار، مما فاقم الأزمة بشكل كبير، وبدأ النمو بالتراجع بشكل كبير وملموس، حتى وصل إلى أقل من ١% سنويا قبل العام ٢٠١٩، تبعا لحساباتهم المغلوطة، وبعد اشتداد الازمة في بداية ٢٠٢٠، بدأت تصريحات مسؤولي صندوق النقد الدولي تتسارع بتقدير تراجع نسب النمو، حيث بلغ ( تبعا لتقديراتهم) بأن الناتج الوطني بلغ في عام ٢٠٢٠ أقل من ٢١ مليار دولار، على عكس الدراسات التي أجريناها على مختلف القطاعات الاقتصادية، والتي قدرته ب ٤٠ مليار دولار على الاقل في العام ٢٠١٩، وقد بينا في نشرات عديدة أن طريقة احتساب تراجع النمو الاقتصادي في لبنان كان يشكل خطأ فادحا في الدراسات التي نشرها صندوق النقد الدولي.
وأتبع حنا، أنه ومع كل هذه المواقف السلبية من قبل المؤسسات الدولية، ومع عمليات النهب المبرمج الذي اعتمدته الطبقة السياسية في لبنان، كانت قد بدأت عمليات تهريب الاموال للخارج، حيث خرج من المصارف اللبنانية اكثر من ٣٠ مليار دولار خلال سنوات معدودة.
وبالرغم من كل ذلك، لم يؤدي كل ما سبق الى انهيار شامل سريع، اذ ما زال يوجد هناك نقاط قوة في الاقتصاد اللبناني، بيناها في دراسات قدمت الى البنك الاوروبي للاستثمار، والى غيره من المؤسسات المحلية والدولية، ومن المفيد الاشارة إلى المقابلة التلفزيونية للدكتور منير راشد؛ بأن الاقتصاد الذي يملك اكثر من ١٢٠ مليار دولار كودائع، و اكثر من ١٥٠ % كاقتصاد بالنسبة الى قيمة الديون بالدولار الاميركي؛ لا يمكن ان ينهار بهذا الشكل، واعتبر ان معايير تصنيف قدرة الاقتصاد على الصمود هي خاطئة كليا، ولنا في الاقتصاد العالمي مثل، لذلك يؤكد حنا أن انهيار لبنان سياسي وليس مالي أونقدي أواقتصادي.

بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية، اعتبر حنا انه صعب من دون تأمين المصالح المشتركة للمنظمات الدوليه التي تعمل لصالح الصهيونية، وأكد أن الهدر لن يتوقف حتى لو تم انتخاب رئيس بوجود تلك المنظومة السياسية، التي تستمر في الهيمنة على البلد وتزوير كل شيء؛ بما فيها الانتخابات التي تم تزويروها بنسبة كبيرة.
لذلك فإن الاصلاح السياسي في وجودهم هو بعيد المنال، لان غايتهم الاستمرار في سياسة الفساد والهدر، فالاصلاح يحدهم من الاستمرار، والكهرباء اكبر مثال على ذلك، وكلهم مشاركون، وختم حنا بأن أي حل لا يمكن أن يبدأ بوجود المنظومة السياسية الحالية.

*د. طلال حمود-ملتقى حوار وعطاء بلا حدود وجمعية ودائعنا حقّنا.*