على مدار 4 أسابيع عاشها المونديال القطري، تبارى لاعبو المنتخب الأرجنتيني لكرة القدم في تقديم أفضل ما لديهم لجماهيرهم ولعشاق اللعبة، والتف حولهم العديد من المشجعين في الداخل والخارج، وصولا إلى حمل الكأس في ختام البطولة.
لكن الفريق المتوج باللقب الأول منذ عام 1986، ظهر مجددا بهيئته المميزة، فلم نشهد أي لاعب من أصحاب البشرة السمراء، على عكس منتخبات دول أخرى قريبة في قارة أميركا الجنوبية.
وتبدو ملامح ليونيل ميسي وزملائه أوروبية أكثر منها أفريقية أو من العرق الهندي (وهم مجموعة من الأرجنتينيين الأسيويين)، رغم ن وجود لاعبين بتلك الملامح يعد أمرا مألوفا في فرق القارة الأخرى، بل وحتى في العديد المنتخبات الأوروبية.
وتتناقض هذه الصورة مع حقيقة أن السود أو ما يطلق عليهم "الأجنتينيين الأفارقة" جزء متأصل من تاريخ البلاد، وفق باحثين متخصصين، بعد أن تم استقدامهم إلى هذا البلد قبل قرون عدة.
إريكا إدواردز، الكاتبة والأستاذ المساعدة في جامعة تكساس الأميركية، سلطت الضوء على هذه القضية في مقال على واشنطن بوست، نشر في الثامن ديسمبر الجاري، تحدثت فيه عن محاولات تاريخية لطمس هوية الأرجنتينيين من أصول أفريقية.
وتوضح أنه في مونديال عام 2014 أطلق البعض نكاتا بشأن هذه المسألة، إذ أشار البعض إلى أن منتخب ألمانيا كان يضم لاعبا أسود واحد على الأقل، بينما لم يضم فريق الأرجنتين أي لاعب أسود.
لكن بعد نشرها مقالها الأخير، دحض البعض هذه الفكرة وكتب أحدهم ساخرا:" تشعر واشنطن بوست بالضيق الشديد لأن معظم لاعبي كرة القدم في الأرجنتين يبدون مثل ليونيل ميسي.. ربما لأن ميسي جيد في لعب كرة القدم؟".
وأشار معلقون إلى لاعبين من أصحاب البشرة السوداء، أو البنية، كانوا ضمن مشاهير اللعبة في الأرجنتين، مثل حارس المرمى السابق، هيكتور بالي، الذي سبق له اللعب في كأس العالم، بالإضافة إلى أسطورة كرة القدم الأرجنتينة دييغو مارادونا، واللاعب فيرناندو تيسوني.
وتشير التعليقات الأخيرة إلى بعض الأعراق التي عرفت تاريخيا بأنها تشير إلى السود أو نتيجة تزاوج بين السود وأعراق أخرى، لكن يبدو أن عددهم أقل بكثير من زملائهم البيض في الفريق الحالي والفرق السابقة.
من بين هؤلاء، خوان سيباستيان فيرون، وهو لاعب كرة قدم سابق، وهو من عرق MULATTO ,وهذا العرق خليط من الأعراق الأوروبية والأفريقية، وكذلك عرق "Morocho" الذي ينتمي إليه ماردونا، ويتميز بالبشرة البنية.
وتواصل موقع الحرة مع الكاتبة بشأن محتوى المقال، واكتفت بالقول: "هذه اللحظة، أفضل أن تتوقف على التعليق على هذه القضية".
وتشير الكاتبة في مقالها إلى أن إحصاء رسميا أصدرته الحكومة الأرجنتينية، عام 2010 أشار إلى أن السود مثلوا 149493 شخصا، أي أقل بكثير من 1 في المئة من البلاد.
وبالنسبة لعديديين، تشير هذه البيانات إلى أن الأرجنتين "دولة بيضاء"، لكن حوالي 200 ألف أفريقي نزلوا على شواطئ ريو دي لا بلاتا خلال الفترة الاستعمارية للأرجنتين، وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كان ثلث السكان من السود.
ويقول المؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، جورج ريد أندروز، في كتاب بعنوان "أميركا الأفرو - لاتينية" إنه في عام 1800، كان السود يشكلون أكثر من ثلث البلاد (69 ألفا من إجمالي عدد السكان البالغ 187 ألفا).
ويقول المؤرخ، في مقابلة مع موقع الحرة إن من النادر رؤية لاعبين سود في فريق كرة القدم، لأن 0.4 في المائة فقط من سكان البلاد عرفوا أنفسهم بأنهم منحدرون من أصل أفريقي (المصطلح المستخدم في الإحصاء).
ويشير الباحث المتخصص في تاريخ الأرجنتين إلى أنه "في معظم الفترات التاريخية، سعت الأرجنتين إلى تقديم نفسها للعالم على أنها أمة بيضاء وقد أدى ذلك إلى محو السود خطابيا ورمزيا من الصور الوطنية".
لكنه يلفت إلى أنه في القرن الحالي، تغير هذا الاتجاه إلى حد ما، وتم الاعتراف صراحة بمساهمات السود والسكان الأصليين في تاريخ الأرجنتين في الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لاستقلال البلاد في عام 2011.
وتشير الكاتبة إدواردز في مقالها على واشنطن بوست إلى أن "جهود النشطاء والعلماء السود" أدت إلى الاحتفال باليوم الوطني للأرجنتينيين من أصل أفريقي في 8 نوفمبر، وهو اليوم الذي يتم فيه تذكر مساهماتهم التاريخية.
متى قدم الأفارقة إلى الأرجنتين؟ تشير الباحثة في مقال آخر لها إلى أن المستعبدين وصلوا لأول مرة من البرازيل عام 1585، إلى ما يُعرف اليوم بالأرجنتين.
وبعد 10 سنوات، حصل تاجر برتغالي يدعى بيدرو غوميز راينيل على رخصة لاستقدام 600 أفريقي سنويا إلى بوينس آيرس، وهو ما مثل بداية تجارة الرقيق التي استمرت حتى عام 1835.
وخلال تلك الفترة، وصل حوالي 200 ألف مستعبد، معظمهم من أفريقيا أو من البرازيل. ونظرا لأن بوينس آيرس ظلت مدينة صغيرة، فقد باع التجار غالبية هؤلاء في المناطق الداخلية من البلاد، ثم توسعت هذه التجارة لتشمل كامل القارة.
ماذا حدث بعد ذلك؟ تشير نيويورك تايمز في تقرير سابق إلى أنه كان في الأرجنتين وجود أفريقي قوي بسبب هؤلاء المستعبدين الذين تم إحضارهم للبلاد.
لكن "عوامل لا تعد ولا تحصى" أدت إلى تراجع أعدادهم، من بينها الخسائر الفادحة على الخطوط الأمامية في حرب التحالف الثلاثي ضد باراغواي في ستينيات القرن التاسع عشر، ووباء الحمى الصفراء الذي نجا منه الأرجنتينيون البيض، والتزاوج بين الأعراق الذي أدى إلى تخلي الأجيال المتعاقبة من السود عن ثقافتها الأفريقية، والهجرة الأوروبية التي أدت إلى تضاعف عدد السكان البيض، مشيرة إلى هجرة 2.27 مليون إيطالي بين عامي 1861 و1914.
ويشير أندروز، في حديثه مع موقع الحرة، إلى تحول ديمغرافي كبير فبعد أن كان حوالي ثلث السكان السود، أو من أقلية مولاتو في عام 1800، وجد تعداد 2010 أن 0.4 في المئة من السكان يعرفون أنفسهم على أنهم سود.
ويشير أيضا إلى دراسة استقصائية وطنية أجراها مشروع الرأي العام في أميركا اللاتينية (LAPOP) عام 2010 وجدت أن 0.7 في المئة من السكان يعرفون أنهم سود أو "مولاتو".
وقالت الباحثة في مقالها إن "من الواضح أن الأرجنتينيين السود لهم تاريخ طويل، لكنهم تعلموا بمرور الوقت أن البياض هو المفتاح للحصول على وضع وحرية أفضل، فمنذ الحقبة الاستعمارية، كان البياض يعادل الامتياز والثروة والحرية والتعليم. على العكس من ذلك، ارتبط مفهوم السواد بالحرمان والفقر والعبودية والجهل".
ونتيجة لذلك، سعى العديد من المنحدرين من أصل أفريقي إلى الحصول على صفة البياض، إن أمكن".
وللقيام بذلك، كانت النساء من السود يحاكين النخبة البيضاء، وتزوجن من الرجال البيض، ما سمح لهن بالحصول على لقب doña وهو لقب شرفي يمنح للنساء البيضاوات.
ورفضت الباحثة فكرة المرض باعتباره سببا في تراجع أعداد السود تاريخيا "حيث تظهر البيانات أن تفشي المرض لم يقتل السكان السود بمعدلات أعلى من السكان الآخرين".
ويتفق أندروز أيضا على فكرة "ارتقاء" النساء التي طرحتها، وقال: "حدث هذا مع الأفراد الذين سعوا إلى الارتقاء بمكانتهم، كما تقول إدواردز في مقالتها، لكن من الصعب تحديد أرقام لهذه الظاهرة (أي معرفة عدد الأشخاص الذين غيروا هوياتهم العرقية)، والتي تنطبق فقط على الأفراد وليس على مجموعات سكانية بأكملها".
وتشير الباحثة أيضا إلى أنه إلى جانب استقدام المستعبدين قبل عدة قرون، شهدت الأرجنتين أيضا موجة من الهجرة، حيث بدأ سكان الرأس الأخضر الهجرة إلى الأرجنتين في القرن التاسع عشر بجوازات سفر برتغالية، ثم دخلوا البلاد بأعداد أكبر خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، بحثا عن العمل بحارة وعمال.
وفيما يتعلق باستخدام الرجال السود في حروب القرن الـ18 باعتباره سببا لقلة أعداد الرجال السود، قال إنه تم تجنيدهم بكثافة من قبل الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة، وخدموا بأعداد كبيرة في جيوشها "لكنني لم أر أي دليل على أنهم ماتوا بأعداد أكبر من الجماعات العرقية الأخرى في الجيش الأرجنتيني".
ويؤكد أنه لا توجد محاولات تاريخية لإنهاء وجود السود جسديا، لكن ما حدث هو محاولة إظهار الثقافة البيضاء في الصورة العامة بدلا من السود.
وتشير الباحثة إلى أنه، تاريخيا، حاول القادة "تبييض" الأرجنتين من خلال ربطها بالتراث الأوروبي. من بين هؤلاء دومينغو فاوستينو سارمينتو (رئيس الأرجنتين من 1868 إلى 1874) الذي قال: "بعد 20 عاما، سيكون من الضروري السفر إلى البرازيل لرؤية السود".
وألغت الأرجنتين العبودية عام 1853 في معظم أنحاء البلاد، وفي عام 1861 في بوينس آيرس، وبدأ التركز على تحديث البلاد بتكريس الثقافة الأوروبية.
ونص التعديل 25 للدستور الأرجنتيني بوضوح على أن "الحكومة الفيدرالية يجب أن تعزز الهجرة الأوروبية"، ولا يزال هذا البند في دستور الأرجنتين اليوم.
وبدأت الوثائق الرسمية استخدام تسميات عرقية غامضة مثل pardo (ذو بشرة بنية) أو trigueño ( بلون القمح) وmorocho (بلون بني) و criollo (الأشخاص الذين سكنوا الأرجنتين قبل الهجرة وينتمون إلى أصول إسبانية أو هندية أميركية)، وmorocho (أشخاص بلون بني داكن) للإشارة إلى الأشخاص الذين تم تصنيفهم سابقا على أنهم منحدرون من أصل أفريقي حتى توقفت الأرجنتين بعد ذلك عن استخدام فئات عرقية على الإطلاق.
ويقول أندروز لموقع الحرة إن كلمة "morocho" مشتقة من "مورينو" (ولا تزال تستخدم حتى اليوم) وهو تعبير ملطف عن "الزنجي"، لكنها لا تمت بصلة للمغرب على عكس ما يعتقده البعض.
ومع تشجيع الهجرة، سرعان ما تغير المشهد في الأرجنتين، حيث لبى 4 ملايين مهاجر أوروبي دعوة الحكومة للهجرة بين عامي 1860 و1914.
ولم يكن هذا المشهد فريدا للأرجنتين، فقد تمت محاولة عملية "التبييض هذه" في معظم أنحاء أميركا اللاتينية في أماكن مثل البرازيل وأوروغواي وكوبا لكن التجربة كانت ناجحة جدا في الأرجنتين.
أما بالنسبة للسكان السود والهنود الأميركيين الذين كانوا في الأرجنتين قبل هذه الهجرة الأوروبية الجماعية، فقد بدأ الكثيرون في تحديد هويتهم بشكل أو بآخر من خلال الاستقرار في الفئات العرقية والإثنية التي تم وضعها خلال القرن الـ19.
وفي حين أن هذه التسميات تصفهم في النهاية بـ "الآخرين"، إلا أنه ذلك ساعد أيضا في فصلهم عن كونهم "سود".
وتشير الباحثة كذلك إلى أن عدد المهاجرين من أفريقيا وأحفادهم يتراوح حاليا 12000 إلى 15000 ويعيشون بشكل أساسي في منطقة بوينس آيرس.
وفي حين كشف إحصاء عام 2001 إلى أن الأرجنتين تأوي ما يقرب من 1900 مواطن أفريقي المولد هاجروا إلى البلاد، فقد تضاعف هذا العدد بحلول عام 2010.
وعلى مدار السنوات الـ10 الماضية، هاجر الأشخاص المنحدرون من بلدان أميركا اللاتينية الأخرى مثل البرازيل وكوبا وأوروغواي بشكل متزايد إلى الأرجنتين بحثا عن الفرص الاقتصادية.
ويوضح هذا التاريخ أنه على الرغم من أن منتخب كرة القدم الأرجنتيني قد لا يشمل الأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي، أو الأشخاص الذين ينظر إليهم على أنهم من السود، إلا أنه ليس فريقا "أبيض" أيضا، فوصف الأشخاص بأنهم "morocho" يشير إلى السود والسكان الأصليين أيضا، وهو مطلع يستخدم حاليا للتمييز بين الأشخاص من غير البيض، وفق إدواردز.
ولعل أشهر هؤلاء هو أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا ، الذي شهدت البلاد ثلاثة أيام حداد وطني عندما توفي في نوفمبر 2020. وأصبح هذا الأسطورة غير البيضاء وجها لكرة القدم الأرجنتينية، والمفارقة "الأمة البيضاء".
ومن غير المستبعد أن يتم وصف العديد من اللاعبين في الفريق الوطني الحالي بأنهم "morocho".
ويشير تقرير نيويورك تايمز إلى الاحتفاء بالثقافة الأفريقية في الأرجنتين خلال السنوات الأخيرة، ويقول: "انتقلت الأرجنتين من التأكيد على جذورها الأفريقية إلى إعادة اكتشافها، حيث تحدى الأكاديميون وعلماء الآثار والمهاجرون وحركة الحقوق المدنية الناشئة فكرة أن أفريقيا والأرجنتين مصطلحان متعارضان".