الأزمة العراقية: اشكالية المقاربة الدستورية واستعادة مرجعية المعايير

  • شارك هذا الخبر
Friday, August 19, 2022


بقلم: الدكتور غسان أبو ذياب/ مدير مركز Demokrattia للدراسات السياسية والإستراتيجية- واشنطن

إشكالية انكفاء المرجعية الحقوقية أو القانونية الناظمة "الضابطة الكل"، التي من المفترض أن تتقاضى أمامها الجهات المتنازعة في المشهد السياسي العراقي لأسباب معللة أو بدونها، لتعطي "الجواب الشافي" في المواضيع المطروحة، تضيف طبقة من التعقيد على الواقع المأزوم الذي تعيشه التجربة الديمقراطية الغضة في العراق، وتحديداً تلك في الفترة ما بين العامين 2003 و 2011. علما أن الباحثين في الشأن الدستوري والحقوقي، ولا نقول القانوني، يعيدون تأصيل وتاريخ المحاكم العليا والدستورية ضمناً في العراق إلى ما قبل ذلك بكثير، وتحديداً إلى عام 1925، مع تأسيس ما عرف بالمحكمة العليا، مع الإشارة إلى أن الفترة التي سبقتها كانت الشؤون ذات الصلة تعود لأحكام القانون الأساسي العثماني الصادر عام 1876.
فقد تزامن اعتماد الدستورالمؤقت (1968)، الذي أتى نتيجة لتغير فلسفة النظام العراقي، مع اقرار القانون رقم (159)، الخاص بتكوين المحكمة الدستورية العليا، وجاء في أسبابه الموجبة "إن إنشاء هذه المحكمة تم لأجل أن تتولى تفسير أحكام الدستور تفسيراً ملزماً لرفع ما يصيب نصوصه من غموض".
روحية الدستور العراقي الجديد (2003) ثبتت المبدأ الدستوري المستجد نسبياُ في علم الدستور المقارن، المتعلق بفصل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وتعاونها، فاعتبرت أن هناك حاجة لسلطة مستقلة تماما عن القضاء العادي (مجلس القضاء الأعلى ضمنا)، تختص في الفصل في النزاعات الدستورية، وتتكون من فقهاء حقوقيين وقانونيين لتحقيق روح الدستور المتمثل بإزالة أي عوائق أمام العملية الديمقراطية التي تختصر بحكم الشعب والعودة إليه عند كل مفصل، فكانت عندها المحكمة الاتحادية العليا، كأعلى محكمة في العراق، وأُنشأت بالقانون رقم (30) لعام 2005 وفق المادة (93) من الدستور.
في المهام والإختصاصات، نص القانون على أن إختصاص المحكمة هو الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة، وتفسير الدستور، والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والفصل في القرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، وقد كفل القانون لكل من مجلس الوزراء، وذوي الشأن من الافراد الطبيعيين والمعنويين وغيرهم، حق التقاضي المباشر لدى المحكمة، كما ضمن القانون للمحكمة حق الفصل في في المنازعات السياسية التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية، والنزاعات البينية، والنظر بالطعون، وسواها.
بالمعنى السياسي، جعل المشترع من المحكمة الإتحادية، بعد تأكيد أن قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة، والتشديد على استقلالها "بشكل كامل" عن القضاء العادي، وعدم ارتباطها به بأي شكل من الأشكال، المرجعية النهائية والأخيرة الصالحة للبت في النزاعات ذات البعد السياسي-الحقوقي- الدستوري. بالمقابل، جعل ذلك من أعضاء هذه المحكمة ما يمكن اعتباره "مجلس الحكماء" كي لا نقول "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، وطلب، وفق المادة (92) من الدستور تشكيلها من "عددٍ من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب". بالتالي، لم يحصر عضوية المحكمة بالقضاة فقط، بل بما يمكن اعتبارهم حقوقيين، لغاية في نفس مشترع.
النزاع العراقي ليس شأنا داخليا تفصيليا، عنوانه صراع الصدر- المالكي حول السلطة، بل يتداخل الصراع الداخلي بالنزاع الخارجي حول مستقبل العراق. التبسيط يمكن اعتباره تعبوية، في حين أن المحور الأساس مرتبط بالتأصيل السياسي لمبدأ قيام الدولة مقابل بقاء الميليشيا.
رب سائل يسأل، ماذا بعد الحوار الوطني في العراق، حوار يبقى غير مكتمل بغياب المكون الصدري، أحد أبرز المكونات الشيعية، والمكون التشريني، الذي فشل إلى حد الآن في إيجاد كوادر تستطيع الإنتظام في مشروع التداولات السياسية، وبقي في إطار "الفوضى التنظيمية "، السؤال هو إلى أين يذهب العراق، في ظل ضغط الشارع والإعتصامات المتبادلة في الشوارع، أو التهديد بالشارع، الخشية هي أن يكون الهدف السياسي جعل النظام العراقي غير قابل للحكم ungovernable. قد يتوفر من يدير هذا التعطيل، خدمة لمصالح دول إقليمية، أو قوى إقليمية تحاول تصوير الأيديولجية أقوى من الدولة، وقد يسهم في ذلك، عن قصد أو غير قصد، كثر ممن ينادون بإعادة النظر في العقد الإجتماعي العراقي. العراقيون بلغوا سن الرشد السياسي منذ مئات السنين، منذ شريعة حمورابي إلى الملكية وغيرها.
بالشكل، تستطيع المحكمة الإتحادية أن تعلن عدم إختصاصها، إلا أن ذلك لا يعفي اعضاءها من المسؤولية التاريخية، واذا قالت المحكمة الإتحادية أن لا صلاحية لها، لا يحق لأحد أن يقول لها أن لديك الإختصاص لذلك. بين الصلاحية والإختصاص، والمسؤولية وحكم التاريخ، فإن المناقبية والمهنية والحرفية هي ما يعول عليه العراق والعراقيون اليوم، بعيداً عن الضغوط التي تمارس على القضاة لمحاولة الخروج من عنق الزجاجة. الواقعية السياسية تشير إلى أن الحالات المنصوص عنها في حل مجلس النواب (يحل البرلمان نفسه، أو يحله رئيسي الجمهورية والحكومة) غير متوفرة، الحل الحقوقي الوحيد هو في موضوع المحكمة الإتحادية. حتى لو نجحت الأطراف السياسية العراقية في "إستدعاء" الصدر إلى الطاولة، فالحل القانوني عندها ممكن الطعن فيه، باعتبار أن رئيسي الجمهورية والحكومة في حالة تصريف الأعمال، وحالة تصريف الأعمال هي حالة استثنائية، تقيد إطلاقية حرية الرئاسات في ممارسة مفهوم "الحكم"، إذ تنتزع تأصيل "المشروعية الشعبية" المرتبطة بحالة "الثقة".
المقصود ليس إيحاء القرارات للمحكمة، بقدر ما هو إعادة تعريف وإضاءة على خطورة دور المحكمة الإتحادية في إنضاج التجربة الديمقراطية في جمهورية العراق، علما أن كلمة الجمهورية Republic مُشتقة من res publica أي الشأن العام أو المصلحة العامة، والدولة، بمؤسساتها عامة، وبالمحكمة الإتحادية خاصة، هي الجهة الوحيدة المولجة بتطبيق مبدأ فعالية القانون. لا يخفى على اللبيب أن العراق يحتاج الى قيادة شجاعة في دولة مستقلة، لا قيادة تتماهى مع الخارح لتبرير وجودها، ومكافحة الفساد وكل الإصلاح لا يمكن أن يتم بدون دولة قوية ذات سيادة أحد أبرز شروطها إحتكار القوة المنظمة، لا حالة تفلت سلاح الميليشيات وغياب وحدة الإمرة ودوائر النفوذ. والقانون علم معياريscience normative ينظم العلاقات بين الأفراد وللحياة العامة، لا مجرد تقنيات في البرهان، لمحاولة تبرير "عدم التدخل" بذريعة عدم التعاطي، و"حل المشكلات بالسياسة"، لأن الفارق بين قضاء المحكمة الإتحادية والقضاء العادي، يتوسع إلى حد أن الحقوقي، إذ يحرص على تطبيق القانون، إلا أنه أيضا يبحث في مدى انطباق القانون، بتفريعاته ومندرجاته وحيثياته وحتى اجتهاداته، مع الحالة موضوع الدرس.
الحل في العراق يجب ان يكون عراقيا، لا بأس أحيانا بالإستعانة بوسيط يكون ذو كلمة مسموعة، إلا أن ايجاده في ظل تعقيد الساحة العراقية ليس بمهمة سهلة. يقول روبرت فورد، السفير الأميركي السابق في سوريا والجزائر:" وأتمنى أن يجد العراقيون مخرجاً سلمياً من الأزمة الراهنة...ويضيف: وأعرف أن الأميركيين لا يملكون الإجابة عن ذلك"... فهل سيكون لدى الرئيس جاسم عبود ورفاقه فصل الخطاب؟ الجواب في أقل من أسبوعين...