د. إيلي جرجي الياس - أفغانستان وغموض المصير، بين طالبان وأسد بانشير!!

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, August 31, 2021

غيّرت الحربان العالميتان الأولى ١٩١٤-١٩١٨ والثانية ١٩٣٩-١٩٤٥، وجه العالم خلال سنينٍ معدودة، على كافة المُستويات وفي كافة المجالات، بوتيرة سريعة وتبدّلات هائلة، ولمّا لم تعد الحرب العالمية الثالثة ممكنة لأنّها ستكون نووية وتدمّر كلّ الكوكب في دقائق، استعيض عن الحروب العالمية بالحروب الباردة: الحرب الباردة الأولى ١٩٤٧-١٩٩١ ضمن الجيلين الثالث والرابع من الحروب، والحرب الباردة الثانية ٢٠٠٠-٢٠٢٠ ضمن الجيلين الرابع والخامس من الحروب، والحرب الباردة الثالثة الآتية بعد زمن الكورونا كما أعلن ذلك الصينيون والروس والأميركيون ضمن الجيلين الخامس والسادس من الحروب، وتتميّز الحروب الباردة بطول الأمد والصراعات الاستخبارية السرّية وحتّى الغامضة والمواجهات الاقتصادية الخفيّة...
كانت أفغانستان نجمة الحرب الباردة الأولى في ثلثها الأخير، وخصوصاً مع انتشار القوات السوفياتية فيها ١٩٧٩-١٩٨٩، حيث واجهتها حركات المجاهدين، وكانت نجمة الحرب الباردة الثانية أيضاً مع تواجد القوات الأميركية فيها ٢٠٠١-٢٠٢١، في مواجهة حركة طالبان المتشدّدة وأسامة بن لادن زعيم القاعدة الذي من المفترض أن القوات الأميركية اغتالته يوم ٢ أيّار ٢٠١١، ويبدو أنّ أفغانستان، رغم انتصار طالبان المعلن، تستعدّ لتكون نجمة الحرب الباردة الثالثة ولو ضمن إطارٍ جديد...
خمسون عاماً من الصراعات الداخلية والقبلية والحزبية والعائلية، وعشرة أعوامٍ من السيطرة السوفياتية المباشرة، وعشرون عاماً من السيطرة الأميركية المباشرة بالتعاون مع دول حلف شمال الأطلسي... وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في القاموس الأفغانيّ الغريب العجيب: سلطة مركزية في كابول، تسيطر على معظم أفغانستان، وهذه المرّة بقيادة حركة طالبان، ومقاومة شرسة في وادي بانشير بالقرب من كابول، بقيادة أسد بانشير أحمد مسعود ابن رمز المجاهدين الأفغان أحمد شاه مسعود، الذي اغتالته القاعدة وطالبان في ٩ أيلول ٢٠٠١ عشيّة عملية ١١ أيلول ٢٠٠١ الإرهابية الجريئة التي نفّذتها القاعدة في الولايات المتّحدة الأميركية... ولا تزال جوانب من اغتيال الزعيم أحمد شاه مسعود شديدة الغموض...
وهكذا عود إلى بدء... بأمرٍ مباشر من الرئيس الأميركيّ جو بايدن تنسحب القوات الأميركية من أفغانستان في موعدٍ أقصاه ٣١ آب ٢٠٢١، متعرضاً لانتقادات عنيفة من الرئيس الأميركيّ الأسبق دونالد ترامب وبعض الأوساط السياسية الأميركية والفرنسية، مرضياً إلى حدّ ما المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربيّ وباكستان وتركيا لإقامة نظامٍ طالبانيّ معتدل ومنفتح حسب إرادة الدول أعلاه... وسط مراقبة إيرانية دقيقة على هامش المفاوضات المتواصلة بين الأميركيين والإيرانيين... وصمتٍ روسيّ-صينيّ مريبٍ للغاية!!
إلّا أنّ الاستراتيجيات تبدّلت ولو أنّ الظروف مشابهة... حيث ترافق الصمت الروسيّ-الصينيّ الغامض، مع تدخّل استخباريّ صاعق للطرفين في أفغانستان سمح لقوّات حكومية، كان من المفترض أن تستسلم تلقائياً لطالبان حسب بنود اتفاقها السرّيّ مع واشنطن، أن تنتقل بسلاحها وعتادها إلى وادي بانشير، والذي أصبح قلعةً عسكرية متمرّدة ومتمكّنة، من الصعوبة اختراقها، ولو ضمن معركةٍ عسكرية ضارية...
ولإرضاء الحلفاء في المنطقة، ولفترةٍ زمنية محدّدة، ستغضّ الولايات المتّحدة الأميركية والمعسكر الغربيّ النظر، وتفاوض عن بعد، دولة طالبان المستحدثة في أفغانستان... بينما ستبدأ فرصة للحوار بين المعارضة الأفغانية القوية بقيادة أحمد مسعود من جهة وموسكو وبكين وطهران والمعسكر الشرقيّ من جهة ثانية... وكما من قبل ومن بعد خمسين عاماً، لن يكون الحسم العسكريّ الكامل ممكناً، بل الكلمة الحاسمة والأخيرة، هذه المرّة، لعاملين أساسيين: القدرات الاستخبارية والإمكانيات الديبلوماسية... إنّها صورة حيّة وصريحة عن الحرب الباردة الثالثة، بامتياز!!
وتبقى الكلمة الفصل للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، إذا ما قرّر أن يسحب من الخزائن السوفياتية العتيقة، المشروع الروسيّ-السوفياتيّ القديم: دولة شمال أفغانستان...

د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ،