زياد شبيب- ثورة ثقافية

  • شارك هذا الخبر
Friday, July 30, 2021


يعتبر كمال ديب أن موت المدينة يعني موت المدنيّة. والمقصود بالموت هو موت الثقافة وليس الزوال المادي أو الانقراض الديموغرافي للمدينة. (تاريخ لبنان الثقافي 2016).

والمدينة عند ديب هي #بيروت. و"في يوم من أيام 1975 ثمة من أطفأ النور في بيروت". ولكن ديب يعلم أن موت المدينة ليس كموت البشر فهي لا تنفك تحيا من جديد وتُحيي مَن فيها ومَن حولها. ولهذا تحدّث عن "عودة الأمل" ولاحظ بأنّ "ثمة نهضة ثقافية متجددة في لبنان اليوم (مرحلة تسعينات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي).

هذا كان قبل تفجير بيروت في الرابع من آب 2020. ولكن يبدو أن من أطفأ النور في المدينة في العام 1975 لم ينجح في قتلها. فقد بقيت على قيد الحياة وعادت لتشعّ فكراً وثقافة وتنبض بالحياة. إلا أن القاتل أجهز عليها مجدداً، مفجراً إياها ومحاولاً اجتثاث نسمة الحياة منها.

في العام 551 دمّر زلزال المدينة بما فيها مدرسة الحقوق الرومانية التي أعطت لبيروت تسمية "أم الشرائع" ونحن لا نزال حتى اليوم ننقّب عن آثار تلك المدرسة، لأن هنالك رغبة كامنة في كل منّا بأن يقيم الدليل على أن التدمير لا يمكنه قتل الرغبة بالحياة في بيروت.

استعادة الدور الثقافي التنويري هو الباب إلى مستقبل لبنان وهذا ما يجب أن نعقد عليه العزم اليوم مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للتفجير، وهذا يكون بالمبادرات الجديّة الفاعلة. وبالمناسبة تعود "دار النهار للنشر" للعمل بعد توقف قسري دام عدة سنوات. وطموحها المتجدّد أن تنهل من ماضيها العريق وتؤسس عليه مصنعاً للفكر ومركزاً للثقافة.

تفاجأ كثيرون بالقرار في ذاته كما فوجئوا بالتوقيت، لأن البلد لم يشهد في السنتين الأخيرتين غير أخبار الإقفال والرحيل على إيقاع الأزمات المتناسلة والجائحة، وما سَلِمَ من هذه وتلك، أصابه تفجير بيروت مقتلاً. ودار النهار، بعكس مجرى الأحداث وبخلاف كل منطق مالي أو اقتصادي وبعكس المشهد التشاؤمي الانهزامي الذي يطغى أكثر فأكثر كلما استمرت الأزمة وتفاقمت، قررت، مثل بيروت، أن تبقى على قيد الحياة وأن تساهم في إعادة الروح إلى المدينة.
وفي خضمّ ورشة العودة رحل فارس ساسين وجبور الدويهي. ساسين المستشار والمدقق والناقد الذي ساهم إلى جانب غسان تويني، بأعمال لخصت قرناً من تاريخنا، "لبنان القرن في صور" و"كتاب الاستقلال" (إعداد فارس ساسين ونواف سلام بالاشتراك مع نخبة من المبدعين). أما الدويهي فرواياته التي بلغت العالمية خير دليل على أن الإبداع في الزمن الحاضر ممكن وبأن الانحطاط الذي نعيشه في السياسة وإدارة الشؤون العامة، لا يقوى على الفكر ولا يتمكن من بلوغ منابعه.

في تاريخ لبنان الحديث شؤون خلافية كثيرة، ولكن الثابتة الوحيدة هي أن الثقافة والإبداع صنعا دوراً للبنان. واليوم لا أمل بالنهوض من جديد والتأسيس للبنان المستقبل ما بعد الانهيارات والانفجارات، إلا من خلال نهضة أو ثورة ثقافية إبداعية كتلك التي دعا إليها عقل العويط العام 2018.

في بلاد الاغريق دارت حرب طاحنة بين مدينتي اسبارطة وأثينا، كانت كل منها تمثل نموذجاً مختلفاً الى حد التناقض. فاسبارطة كانت تقدس القوة العسكرية والتفوق في فن الحرب بينما أثينا كانت موئل الفكر والعلم والثقافة وتجمّع فيها في ذلك الزمن كبار الفلاسفة الذين طبعوا تاريخ الفكر البشري. في الحرب انتصرت اسبارطة عسكرياً ولكن اليوم لم يعد أحد يهتم بذلك أو يقيم له اي اعتبار وما بقي من حضارة الاغريق هو فكر سقراط وافلاطون وارسطو وزينون الفينيقي وغيرهم.