محمد ابو الفضل- ارتياح متعدد الوجوه للجمود الفلسطيني

  • شارك هذا الخبر
Friday, July 23, 2021

تصور كثيرون أن حرب غزة ونتائجها ستكون هي القاطرة التي تتولى ضبط المسارات الفلسطينية والإسرائيلية وملحقاتها وتفريعاتها، حيث رأينا زخما على مستوى إعادة إعمار القطاع، وحصلت القضية الفلسطينية على شحنة معنوية للمصالحة الوطنية، ودفقات إقليمية ودولية للحديث عن استئناف عملية السلام.

تبخرت الأحلام والأمنيات والطموحات واختفت الشحنات والدفقات بعد أسابيع قليلة، وعادت القضية إلى المربع صفر الذي يبدو مريحا لعدد كبير من الأطراف المعنية بها محليا وإسرائيليا وإقليميا ودوليا، وفتر الحماس التالي على هذه الحرب بما يمثل أحد عناصر الارتياح للقوى التي أرادت حلحلة القضية وتلك التي رفضت هذا الاتجاه.

احتلت زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أخيرا إلى واشنطن اهتماما سياسيا وإعلاميا لافتا، وبالغ الرئيس الأميركي جو بايدن في تثمينها ووضعها في الإطار العام للعلاقات الثنائية بشكل أساسي ووفقا لمستجدات منحت عمّان خصوصية مضاعفة في الأولويات الأميركية والروابط المشتركة معها عقب قرار نقل القاعدة العسكرية من قطر إلى الأردن.

لم تصطحب الزيارة وجدول أعمالها حماسا مماثلا على صعيد تحريك القضية الفلسطينية التي تحتل مساحة كبيرة في عقل ووجدان شعب وقيادة الأردن، ما يعني أن بايدن غير مستعد لدفع تكلفة سياسية قد تكون باهظة لأجلها.

تقول واحدة من الأدبيات السياسية المتداولة عربيا، إذا لم تستطع تحقيق ما تريد فلا تسمح للآخرين بالوصول إلى ما يريدون، في إشارة كافية للتأكيد على أن الإخفاق العام يمكن أن يكون خيارا لجهات متخاصمة وأهدافها متعارضة.

ربما تكون العبارة السابقة التي سمعتها من دبلوماسي عربي مخضرم كانت بلاده تريد مكسبا رمزيا كادت تحرمها منه دولة ثانية، فكان رد الأولى عليها تخريب ترتيباتها حتى خسرت الدولتان المكسب الرمزي الخاص بعضوية أحد المنظمات الدولية المهمة، وتوقفت المطالبة به تماما الآن.

ليس مهما الأسماء هنا التي أفضّل الاحتفاظ بها، فالدلالة تكفي للتعبير عن سياسة باتت متداولة في المنطقة العربية، وانتشرت ووجدت رواجا لها في مناطق عدة حتى أصبح العمل بها شائعا ومألوفا، وهو ما يشير إلى أن عدم التحرك أو الجمود من الأهداف التي تعمل عليها بعض الدوائر، عربية وغير عربية.

تعد الحالة الفلسطينية نموذجا صارخا لهذه المسألة، فالقوى المحلية وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس غير مستعدتين للدخول في مصالحة وطنية تؤدي إلى تقديم تنازلات سياسية من كل جانب قد تفقده وضعا استثنائيا حصل عليه، ولتواجه القضية مصيرها المحتوم المأزوم، فالأوضاع الراهنة مريحة لقيادة الحركتين أكثر مما ينبغي.

كما أن السلطة الفلسطينية التي لم تبذل جهدا لإصلاح أحوالها اكتشفت أنها ستكون من بين الخاسرين إذا انجرفت وراء المصالحة وآلياتها وضوابطها وتداعياتها، وتحمست في البداية عندما اعتقدت أنها سوف تسترد هيبتها داخليا وخارجيا، ثم تراجعت لتحافظ على ما تبقى من شبه سلطة تصاعدت حدة الغضب عليها.

يمكن القياس على ذلك في عموم الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، ولا داعي لسرد تفاصيل أصبحت معروفة لكثير من المتابعين، فبقاء الأوضاع على ما هي عليه يمثل خيارا لغالبية الجهات في المشهدين المفعمين بالتطورات الداخلية.

وليس من بينها الحرص التام على التخلص من الجمود طالما أن الجبهة العسكرية هادئة ولا توجد أدوات قوية تقلق راحتها، والجبهة السياسية لم تجد مساندة حقيقية تؤدي إلى تحريكها في اتجاه استئناف المفاوضات قسرا والبحث عن صيغة مناسبة لإحياء عملية السلام التي تخلت عن ضجيجها النسبي وعادت إلى سكونها.

انصرفت الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي أيدت التباحث بشأن حل الدولتين مؤخرا، والذي لمع في أعين كثيرين ثم اختفت تقريبا الإشارة إليه إقليميا ودوليا، لأن تطبيقه سيكون باهظا على الدوائر المهتمة به أو تلك التي حلمت به، ناهيك عن تعقيداته بالنسبة إلى الدائرتين الفلسطينية والإسرائيلية المقتنعة بالمفاوضات والرافضة لها.

اعترف وزير خارجية إسرائيل يائير لابيد مؤخرا بأهمية حل الدولتين، لكن ألحقه بتحفظ يتعلق بعدم القدرة على تنفيذه في الوقت الراهن بذريعة أن الأجواء غير مواتية، وحتى لو أن اعتراف الرجل غير مشروط بزمن معين فلن يجد آذانا فلسطينية تسمعه وتتجاوب معه وتضغط لأجله، فالسلطة الوطنية بكل مؤسساتها تقف عاجزة سياسيا، وحركة حماس التي تمثل القوة الرئيسية على الساحة لها شروط كفيلة بنسف الفكرة.

تأتي الأزمة الكبيرة من انكماش الولايات المتحدة وغالبية القوى الإقليمية والدولية، سواء لوجود ملفات أخرى عاجلة وأكثر حيوية تنشغل بها، أو لأن الإصرار على حث جميع الأطراف على البحث عن حل سياسي يحتاج إلى مزيد من الانخراط في القضية الفلسطينية وممارسة ضغوط على أطرافها، وبذل جهود مضنية.

الأطراف المتشابكة في القضية الفلسطينية تفتقد للدوافع العسكرية الآن لإعادة الحياة إليها بعد أن ارتبط هذا المحدد ببنك أهداف يدفع أصحابه نحو الحركة أو الهدوء

حدث ذلك عند انطلاق عملية السلام بين مصر وإسرائيل في سبعينات القرن الماضي، وحدث أيضا في منتصف السبعينات وأدى إلى ولادة السلطة الفلسطينية وتوقيع اتفاق سلام بين الأردن وإسرائيل، وتكرر في مراحل لاحقة وعلى مستويات مختلفة عندما كانت هناك ضرورة تدفع واشنطن لمواصلة طريق التفاوض.

انتفاء الضرورة أو استبدالها حاليا أفقد القضية الفلسطينية حيويتها المركزية، وأي محاولة جادة لطرحها على الطاولة ستواجه بمصدات على كل شكل ولون، فما بالنا إذا كان الطرح أصلا غائبا أو مغيبا من قبل أصحابه والمعنيين به؟

الاستراتيجية، وحققت إسرائيل مكاسب بالجملة طوال فترة الخمول التي زاد الوضع الفلسطيني والعربي فيها سوءا ما تسبب في نزع عوامل الزخم السياسي.

يتجدد الحديث عندما تظهر سخونة عسكرية أو تلوح في الأفق ملامحها، حدث هذا الأمر مع حرب غزة الأخيرة، وما أن تم تبريد إفرازاتها على مستويات مختلفة حتى عادت القضية الأم إلى التجاهل ودخلت غياهب النسيان، ولم تجد القوة الفاعلة لتعيدها إلى الواجهة التي ترتبط حركتها بقوة الروافد الناجمة عن أيّ اشتباك مسلح.

تشير هذه النتيجة إلى أن الأطراف المتشابكة في القضية الفلسطينية وبصورة مباشرة تفتقد للدوافع العسكرية الآن لإعادة الحياة إليها بعد أن ارتبط هذا المحدد ببنك أهداف يدفع أصحابه في توقيتات معينة نحو الحركة أو الهدوء، كذلك عندما تجد القوى المتحكمة في هذه البوصلة المبررات اللازمة للخروج عن ضوابطها.

وتؤدي تلك المعادلة إلى تحريك مؤقت، لأن الإرادة الإقليمية والدولية مفقودة، وما جرى بعد حرب غزة من تفاؤل سياسي كان هو الاستثناء الذي يؤكد قاعدة أن القضية الأم سوف تظل تراوح مكانها صعودا وهبوطا لأن التسوية الحقيقية لا تزال غائبة.