معين حدّاد- في حـب الأرض

  • شارك هذا الخبر
Sunday, June 20, 2021

تحيل عبارة حب الأرض على حب الوطن و تحيل ايضا على حب الزراعة او على البستنة كما تحيل على الطبيعة ثم البيئة ومن بعد البيئة، على كوكب الأرض ككل لضرورة الحفاظ عليه وحمايته من عبث الانشطة البشرية الاستهلاكية فيه. غير ان الاحالة الاولى والاولية تبقى على ما بين الأرض والوطن لما له من اهمية في النفوس والعقول لدى شعوب العالم . فالأرض هي التي تجسد الفكرة الوطنية بمختلف تجلياتها وهي القاعدة الجغرافية المحسوسة لها، وعلى الأرض ينبني الوطن بأبعاده المادية والمعنوية، وبوجهيه المتمايزين، وطن المشاعر من جهة والوطن القومي من جهة ثانية.

في المشاعر الوطنية

يرتبط الافراد كما ترتبط الجماعات ، بمكان ( او أمكنة) واراضيه دون آخر، ينتمون اليه ويشكل في الوقت نفسه وجها من اوجه شخصيتهم او هويتهم. فالناس افرادا وجماعات تعرًف عن نفسها احيانا باسم قراها او مدنها... او باسم اي متحد اجتماعي من المتحدات الاخرى المتموضعة على هذه الاراضي او تلك.

ثم ان الناس افرادا وجماعات يتعاملون مع بعضهم بعضا ويتجولون يوميا على مدارات معيّنة في المكان الذي يعيشون فيه، يمارسون انشطتهم ومشاغلهم في عملية تفاعل إجتماعي مسرحها مساحة حيّز معيّن من الارض. ويتخذ التفاعل الاجتماعي اتجاهاً موحٍدا، يُنتج روابط تشد الناس بعضهم الى بعض وتشدهم من ثم الى الارض التي هم عليها من حيث هي المكان الذي يقيمون فبه باعتباره ضرورة لهذا التفاعل الذي يحقق مصالحهم واستقرارهم واستمرارهم. يعني ذلك ان ارتباطنا بمكان او بارضه دون غيره هو حاصل ارتباطنا بالانسان الذي نعيش معه في هذا المكان اي على حيّز من الارض . وعليه فإن انتماءنا الى الارض في هذا المكان او ذاك ليس انتماء عاموديا مباشرا، فهو ليس حاصل الاحتكاك بها وحسب كما هو حال النبات او الحيوان ، بل انه انتماء غير مباشر لانه يمر اليها عبر انتمائنا الى الانسان الآخر الموجود والمتفاعل معنا عليها. إنه إذن انتماء اجتماعي نتشارك فيه مع الٱخرين، فنميّز اذاك اراضينا عن اراضي غيرنا ونبقى متمسكين بها ومتعاطفين معها، وإذا ما تخلينا عنها او هجرناها، حملنا اليها مشاعر الحنين ولوقت طويل فنستذكرها في مناسبات شتى.

هذه الاراضي هي الوطن الذي نبدي نحوه مشاعر جياشة كما يقول المتنبي على سبيل المثال:

بما التعلل لا اهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن

أو كما يقول ابن الرومي:

وحبب اوطان الشباب اليهم مٱرب قضّاها الشباب هنالكا

إذا ذكرت اوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

هذا ويشكل الوطن بهذا المعنى العاطفي أيضا ما يعتبره المعنيون به انه ارض «الاباء والاجداد» توخيا للاستزادة بالتعلق به. فهم يتوارثون على ارضه نتاج انشطتهم المختلفة في سياق التفاعل الذي يوحدهم والمشار اليه اعلاه، ما يجعل الاجيال المتعاقبة تسبغ على ارض الوطن قيما ومعاني تعمل على تجسيدها بالرموز المتعددة تعبيرا عن الانشداد اليها. والوطن هنا لا يحمل بالضرورة بعدا سياسيا اذ يجري التعامل مع اراضيه بغض النظر عن علاقة الدولة به، فالوطن بالمعنى العاطفي هو مسألة ثقافية لا سياسية عمرها من عمر الانسان الاجتماعي منذ ان ابتدأ وعيه بالمكان الذي يتعامل معه، فهي سابقة لا على نشأة الدولة وحسب وانما ايضا على الشأن السياسي برمته.

وعليه فإن التعلق بالأرض والانتماء إليها، لا ينبني على هذه الخصائص الجغرافية لهذه الأرض أو تلك. فالوطن بالمعنى الحميم للكلمة يشكل قضية مشتركة بين جميع الناس في كل زمان ومكان حيث تنمو مشاعرهم الوطنية بدوام وحدتهم وتآزرهم فيما بينهم على الارض المعنية. في هذا الإطار لا يجوز التصنيف بين من هو «وطني» ومن هو غير «وطني»، فالجميع «وطنيون» وإذا ما تميّزوا عن بعضهم بعضا فإنما يتميزون من حيث طباعهم، فمنهم من يتعلق بهذا المكان او ذاك أكثر من غيره ومنهم من يُظهر عواطف في هذا الاطار على نحو يختلف عن الآخرين، إلا ان المشاعر «الوطنية» بهذا المعنى هي نفسها، كما يشترك كل فرد وكل انسان في الحنو الوثيق على الأرض التي شهدت مسقط رأسه وتشكلت منها ملاعب طفولته وعاش عليها مع من احبهم وتفاعل معهم... وهذا الحنو الوثيق هو الذي أطلق ويطلق مكنونات الفنانين والمبدعين في تفاعلهم مع الأمكنة. فكم من مدينة أو ناحية... تماهت بكل لغات العالم في الشعر والغناء... مع الحبيبة والحبيب، وهذه الاراضي أوتلك مع الأهل او الأم... وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ان اراضي الارياف الالمانية التي جال فيها وعايشها نابغة الموسيقى لودفيغ فان بيتهوفن اوحت اليه بالسمفونية السادسة التي ما يزال النقاش بشأنها يدور حول ما اذا كانت تعلو في قيمتها الفنية على سمفونياته الأخرى ام لا.

في تفاضلية المشاعر الوطنية

تتشكل الاراضي التي نتعلق بها انطلاقا من المنزل، أي من المسكن، فالبيت على العموم هو النواة المركزية للأراضي التي نحبها ونميل اليها. وهو ليس مكان مأوى او سكن وحسب، بل هو حيّز يملأ الإنسان تجارب ومشاعر ومعاني، انه جزء حميم من الوجود. انه «الوطن» الأولي فهو اول ما يألفه الإنسان في حياته ويرتبط به ارتباطا حميما خاصاً.

انطلاقا من المسكن تتسع الاراضي المعنية بالانتماء إليها وفق دوائر تغطي المساحات التي تشكل مسرحا لأنشطة الأفراد والجماعات في تجوالهم اليومي، وهذا التجوال هو من صميم الممارسة الجغرافية التي يضطلع بها الإنسان الاجتماعي ، كشرط ضروري لحياته واستمراره. الا ان ذلك لا يلغي ان يبقى ابناء قرية ما على سبيل المثال في اقليم معيّن يشعرون بانشداد الى قريتهم على حساب القرى المجاورة، وينطبق ذلك على الحي في المدينة ثم على المدينة ككل وايضا يميل السكان هنا او هناك الى اقليمهم دون الاقاليم الاخرى. المهم ان انتماءاتنا ومشاعرنا تتباين ازاء الامكنة وما تعنيه بالنسبة لنا، الامر الذي نختبره خلال يومياتنا وفي مختلف سلوكياتنا. ولعله من المفيد هنا ان نذكر كيف ان المغتربين اللبنانيين، وهم على ما هم عليه من شوق الى بلادهم كما هو معروف، يعبّرون عنه في شتى المناسبات ويشيدون ويتغنون بتراب لبنان وهوائه وما الى ذلك، من دون تمييز بين هذه الناحية او تلك، لكنهم عندما يعودون اليه يقصدون الامكنة التي نشأوا وترعرعوا فيها واذا لم يتمكنوا من ذلك بعتبرون انفسهم وكأنهم لم يأتوا الى بلادهم. هذا ما جرى مع البعض، عندما حطّوا في بيروت في فترة هدوء من الحرب اللبنانية، فكان ان ادّى اندلاع الاحداث المفاجىء وقتذاك الى منعهم من التوجه مباشرة الى قراهم، فجالوا في العاصمة ومحيطها محاولين تدبر امورهم من اجل بلوغ قراهم، لكنهم لم يفلحوا، فقضوا في العاصمة بضعة ايام ولما لم تهدأ الاحوال قفلوا عائدين من حيث اتوا خائبين ومحبطين.

يقودنا ذلك الى القول ان تعاملنا مع الامكنة في إطار العلاقة الإنتمائية إليها، يحكمه ما نبديه من تفاضل ازاءها كما يحكمه التفاوت في المعاني التي تحملها هذه الامكنة او تلك بالنسبة إلينا. اننا ندرك من تجاربنا اليومية ان هذا الحيّز او ذاك يعني لنا أكثر من غيره، وهذا الحيّز قد يضيق او يتسع ، قد يكون قرية او مدينة او شارعا من مدينة أو حتى مقهى... والحال اننا ننتمي الى جملة من الامكنة نعتبرها من مكوّنات شخصيتنا الجغرافية الاجتماعية. ولعله من هنا جاءت مفردات الأوطان و الديار... على الصعيد العاطفي في ادبياتنا الوجدانية بصيغة الجمع. اما مفهوم الوطن بصيغة المفرد كما سنرى لاحقا فلن يتبلور ويترسخ الا مع قيام نموذج الدولة القومية المعاصرة التي انتجها مشروع الحداثة في اوروبا والتي جرى تعميم شكلها على العالم.

ذلك ان الانتماءات الى الامكنة ضمن اقليم معين او في دولة محددة تبقى دائما من الشروط التي تساهم في بلورة هويات محلية متمايزة عن الهوية الاقليمية العامة او السياسية العامة اي هوية الدولة التي تضم هذه الامكنة. غير ان هذه الهويات المكانية تقع على المستوى الجغرافي الثقافي دون غيره. ففي ظروف معيّنة عندما يُسأل المرء عن انتمائه يسارع بالإجابة على النحو الآتي «انا بيروتي» او «انا طرابلسي» او «عكاري»... «بقاعي»... الى ما هنالك... وتلك الإجابات هي أكثر من مجرد إشارة الى مكان على الأرض، ذلك أن فيها ما يرمز الى مجموعة من الصفات الثقافية المميزة بالمعنى الانتروبولوجي للثقافة. فالمرء هنا لا يجيب عن سؤال من أين هو وحسب، بل يجيب وهذا هو الأهم، عن سؤال من هو، اي عن هويته الجيوثقافية التي ستعلو عليها الهوية الجيوسياسية للدولة المعاصرة.

في الوطن القومي المعاصر

بدأ تعامل الثقافة العربية مع فكرة الوطن بدلالاتها المعاصرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك في سياق ما دُعي بالنهضة العربية، التي راح روادها يحاولون استيعاب مفاهيم وقيم الحداثة الوافدة من أوروبا، بعد حملة نابليون على مصر، مطلع القرن المذكور، وكان أول من أستخدم مصطلح الوطن بالمعنى الذي يذكّر بالفكرة الوطنية الأوروبية، المعلم بطرس البستاني. قبل ذلك كانت مفردة الوطن، ترد في الخطاب العربي (كما في كل خطاب إنساني آخر) للإشارة الى المكان الذي يحن اليه الإنسان بعد ان يكون قد أقام معه علاقة حميمة توثق ارتباطه به وينتمي إليه كما ذكرنا سابقا من دون أبعاد سياسية، أي خارج إطار الدولة القائمة في المكان المعني.

ذلك أنه في العصر الحديث، ومع تبلور نموذج الدولة المعاصرة، أي دولة الأمة أو الدولة القومية، اتخذت الأراضي التي تقوم عليها الأمة الدولة، بعداً جديداً هو البعد السياسي، وتحولت أراضي الأمة ودولتها، إلى وطن لا بالمعنى الثقافي العاطفي وحسب وإنما بالمعنى السياسي العقلاني أيضاً، فالوطن صار أرض الدولة أو أرض الأمة، والانتماء الى الارض يمر عبر الانتماء الى الدولة المتماهية مع الأمة - المجتمع، أي باعتبار هذه الأمة مجتمعاً متميزا عن غيره، يقوم في مكان معيّن وعلى أراضٍ محددة.

وكما أن الانتماء في الحالة الأولى، أي في الحالة الاجتماعية الثقافية دون السياسية، لم يكن انتماءً مباشراً إلى الأرض، انما انتماء إلى الآخر الموجود على الأرض نفسها، فإن الانتماء الى اراضي الوطن بالمعنى السياسي المعاصر هو أيضاً انتماء غير مباشر، لانه يمر حكماً بالانتماء الى الدولة، بما هي دولة متماهية مع مجتمعها ومعبّرة عن وجدانه الاجتماعي السياسي أي وجدانه القومي. وهنا يصبح التعلق بأرض الوطن هو تعلق بالدولة، بما هي دولة متماهية مع مجتمعها وتحظى بثقته الكاملة، ويصبح البناء الوطني هو بناء الدولة القومية المعبّرة عن إرادة المجتمع ومصالحه المادية والمعنوية، والتي تكون بموجب ذلك دولة ديموقراطية، يعتبرها مجتمعها أفراداً وفئات أنها دولته لا دولة الحاكم او دولة فئة دون أخرى كما كان الامر عليه في الدولة التاريخية . وهذه الدولة باعتبارها كذلك يتشبث بها مواطنوها ومن ورائها، يتشبثون بأراضيهم كلها ( دون التخلي عن ذرة من ترابها ) لا فرق بين ناحية وأخرى لا لأنها أراضي دولتهم وحسب بل لأن جودة ادائها من وحدة اراضيهم بكاملها، فيمارسون سيادتهم على مجمل هذه الأراضي من خلال ممارسة دولتهم عليها.

وهكذا، يمكن القول ان عملية البناء الوطني تقع خارج، التشدق بحب الأرض والتراب والصخوروالشجر... وما الى ذلك من ترهات تمتلىء بها الخطب المدعوة وطنية والتي تتميز بالإطناب السقيم، كما أن حب الوطن بالمعنى السياسي لا يقتصر على تخصيص الحب بهذه القرية او تلك او بهذه المدينة أو تلك ، ذلك أن اراضي الوطن السياسي بمختلف نواحيها تنطوي على القيم عينها، لا فرق بين هذه الأمكنة أو تلك، لأن التفريط بجزء منها ينال من سيادة الدولة ويتسبب لمجتمعها بإشكالات تعيقه عن تحقيق مصالحه على النحو السوي. من هنا فان «الوطنية « من حيث هي قيمة أخلاقية سياسية تقتضي الالتزام ببناء الدولة القومية الديموقراطية أو تمتينه في حال انجازه.

والواقع إن الوطن السياسي بالمعنى المعاصر هو ناتج الحداثة التي أطلقها عصر الأنوار في اوروبا، وهو حاصل أعمال العقل في الشؤون السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل الوطن بالمعنى الحديث ينطوي على أبعاد تتجاوز ما يكنه الإنسان من مشاعر، إلى أبعاد عقلانية على خلفية ما يتطلب بناء الوطن والدولة من إرادة وتعيين المصالح والأهداف في إطار الدولة المعنية. وعليه فإن الوطن القومي، لا يتحدد بالانتماء المنبثق من الحنو على الأمكنة التي تكوّن هذا الوطن، وانما بالانتماء الى الثلاثي الدولة، الشعب والأرض، المجاوز للحنو المذكور (وهو حنو تفاضلي كما رأينا سابقاً)، والمبني على العقل السياسي، وما ينتجه هذا العقل من الحقوق والواجبات وسائر أمور المواطنية الحديثة التي يتميز بها نموذج الدولة المعاصرة.

ملاحظات استنتاجية

بناء على ما تقدم فإن الوطن يستبطن معنيين متمايزين الاول عاطفي والثاني سياسي انما غالبا ما يجري لسوء الحظ الخلط بينهما. المعنى الاول يعيشه الانسان في كل زمان ومكان اما المعنى الثاني فلم يدركه الانسان الا مع شكل الدولة الجديد، اي مع الدولة الأمة او الدولة القومية حيث حب ارض الوطن فيها يتحول الى واجب ازاءها. غير ان الوطن القومي المستجد، يبقى عرضة للنقد والتقييم شأنه شأن القضايا السياسية الاجتماعية المستجدة، التي افرزتها الحداثة.

لمزيد من التفصيل انظر «معين حدّاد، نقد الفكر الوطني، شروط تحقق الأوطان في جغرافيا العالم المعاصر، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2010».