سياسات الفراغ القاتل، الرهان على ماذا وعلى من؟ د. شارل شرتوني

  • شارك هذا الخبر
Monday, May 17, 2021

تحيلنا حالة الفراغ المديدة التي تعيشها البلاد الى اسئلة أساسية حول ما تبقى من الحيثيات القانونية والفعلية للدولة اللبنانية، وإمكانية احيائها في ظل أوضاع التفكك التي لم تترك حيزا الا وأصابته بشكل مميت. ماذا بقي من مفاهيم دولة القانون والمعايير الدستورية والقانونية، ومبدأ فصل السلطات، وتماسك العمل الاداري لجهة قانونيته ومهنيته، وأخلاقيات العمل السياسي والحرص على الخير العام والاموال العامة، وحمايتهما من الاقتطاعات الحيازية والزبائنية، وتحول الموارد العامة الى مصادر لترفيد الاثراء الشخصي، وإمداد المحسوبيات، وتركيز سياسات السيطرة على تنوع تصريفاتها، وتحول القضاء الى أداة لتشريع النهب. هذا التوصيف السريع لما آلت إليه الدولة اللبنانية كاف لافهامنا أسباب هذا السقوط المريع وواقع الفراغ الذي نعيشه على كل مستويات الحياة العامة، وتردداته على الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والنفسية. إن تحول الدولة اللبنانية الى تجمع لمراكز نفوذ متنافرة، وموطئا لسياسات نفوذ إقليمية، وتوزع القرار السياسي والعام على وكلائها المحليين، يضعنا أمام استحالات بنيوية تجعل من فكرة الدولة وسماتها الدستورية والسيادية تمنيات فارغة لا مقابل لها في الواقع السياسي والاجتماعي، لبلد يشهد تبدد مقوماته المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية لحساب انهيارات بنيوية، طاولت الذخر الاجتماعي والمؤسسي الذي راكمه على مدى المئوية الماضية، من خلال الديناميكيات التحديثية العابرة للقطاعات، والأهم من كل ذلك ديناميكيات التثاقف بكل مندرجاتها الفكرية والمهنية والحياتية.
لقد أثبتت الحركة السياسية منذ بدايات الطائف حتى اليوم أن البلاد تعيش على قاعدة انفصامات حولتها الى كيان سياسي وهمي مبني على خطوط تقاطع سياسات النفوذ الاقليمية على اختلاف مندرجاتها، وما نشأ عنها من سياسات تقاسم نفوذ تتدرج بين الداخل والخارج، والطلاق التام بين واقع المجتمع المدني والدوائر السلطوية التي تسعى من خلال سياساتها الى تقويضه، وتجفيف مويته، وتطويع استقلاليته لحساب استراتيجيات القضم المنهجية التي أرستها في كل الاتجاهات. لذا إن أية مراهنة على مشروع إصلاحي يأتي من خلال القوارض التي حكمت البلاد منذ ثلاثين عاما، يقع في دائرة الأوهام التي ينبغي التخلص منها، إذا ما أردنا الخروج من الآفاق المسدودة المطبقة على يومياتنا. لا إمكانية لسيادة وطنية محققة، أو لإصلاح بنيوي يطال الحياة العامة، دون ثقافة ونخب سياسية بديلة والتزامات ميثاقية ودستورية وسيادية، تعيد صياغة العقود الاجتماعية وتركيز المبنى الدولتي على أسس دولة القانون وموجباتها المدنية والاتيكية والأدائية.
إن المشروع الانقلابي الذي صاغته الفاشيات الشيعية، على مدى العقود الاربعة الماضية، ماض في سبيله لجهة تفكيك الأسس الميثاقية والدستورية والثقافية السياسية التي حكمت الحياة السياسية على تعرجاتها، مكملة السياقات الانقلابية التي سبقتها( العروبية والسورية، واليسارية-الفلسطينية) وعلى ضوء مستجدات جيو-استراتيجية دفعت بها سياسات النفوذ الايرانية، وانفجار النظام الاقليمي، ودخول المنطقة في حالة انعدام وزن بنيوية ناشئة عن توسع الفراغات الاستراتيجية، وانفراط المتغير الدولتي لحساب ولاءات وتجمعات سياسية أولية تستثمرها سياسات النفوذ الإقليمية على خط النزاعات السنية والشيعية المتحركة وردائفها الارهابية. إن حالة الفراغ التي نعيشها منذ سنة ونيف ليست بأمر حادث منشأه التناتش بين الاوليغارشيات التي تتقاسم الريوع السياسية والمالية والاقتصادية في البلاد، بل نتيجة لسياسات النفوذ الانقلابية المتوالية على تنوع أقطابها المحليين والإقليميين.
لقد ارتكزت الآلية الانقلابية التي اعتمدتها سياسات النفوذ الشيعية الحاضرة على تحالفات انتهازية ومقايضات مالية وزبائنية، أمعنت في تقويض الكيان الدستوري للدولة لحساب صراعات النفوذ والمقايضات بين أقطاب النفوذ السياسي والمالي والجريمة المنظمة. كما سقط الطرح الاصلاحي الناشىء عن الحراكات المدنية، بفعل لعبة المماطلة وكسب الوقت، والمراهنة على النزاعات الاقليمية، والدفع بالانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والعمل الارهابي (مجزرة المرفأ وملحقاتها)، واستعادة الاقفالات الاوليغارشية، وتعزيز التموضع داخل سياسات النفوذ الشيعية التي تديرها إيران. تحولت الحياة السياسية اللبنانية الى مسرح ظلال للاعبين وهميين تديرهم سياسة هيمنة ناظمة، كما هو الحال مع حزب الله وملحقاته وحلفائه الظرفيين. السياسة الشيعية هي الوحيدة المتماسكة لجهة حيثياتها الانقلابية، وأما السياسات الأخرى فيديرها سياسيون انتهازيون وفاسدون يسعون لتحسين تموضعاتهم ومواقعهم التفاوضية، والحفاظ على مداخيلهم الريعية وتحسينها. هذه هي الاسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الجمود القاتل الذي حول البلاد الى مسرح تناتش بين أركان الطبقة السياسية، وحال دون الدخول في العمل الاصلاحي الجدي وما يقتضيه من تبديل في مرتكزات العمل العام، وتعاون مع المؤسسات الدولية من أجل معالجة الأزمات المالية ونتائجها.
لم تستدع الانهيارات المالية المتسارعة المدغمة بتداعي السياسات التجهيزية ( كهرباء، ماء، شبكات خليوية وانترنت، وأشغال العامة، وتخطيط مدني … ) والاقتصادية والتربوية والاستشفائية والبيئية، أي تحفز باتجاه نقلات نوعية في الحياة السياسية من اجل تدارك هذه الانهيارات ووقف تداعياتها التدميرية على كل المستويات، وهذا ليس بالأمر العارض. إن متابعة لعبة النهب المالي من خلال أسواق الصيرفة المتوازية، وعدم حل مسائل اعادة هيكلة النظام المصرفي على قواعد بازل الثلاث، وإعادة إحياء الديناميكية الاستثمارية في البلاد على خط التواصل بين سياسات الاستقرار السياسي والمالي والاقتصاد الفعلي، ومفاعلاته المعلوماتية والبحثية والتطبيقية في مختلف المجالات الصناعية والزراعية والخدماتية والتربوية والصحية، وإعادة التواصل مع الاقتصاد المعولم، والتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاوروپي في مجالات إعادة التمويل والاصلاحات الهيكلية. إن حصر الخيارات الاقتصادية بتعزيز الاقفالات حول شروط استعادة الودائع المهربة والمنهوبة، ومنصات مالية غير واضحة المعالم، والابقاء على سياسات الدعم المنهوب والمهرب، ووضع اليد على احتياطي الذهب والأملاك العامة المنهوبة أساسًا، والالتفاف على المداخل الاصلاحية لجهة التحقيق المالي الجنائي والمقاضاة ومصادرة الأموال المنهوبة، هي مؤشرات غير مواربة لعدم وجود أية رغبة إصلاحية توقف التدهور وتؤهل البلاد لنقلات إصلاحية، تخرجنا من حلقات الاقتصاد الريعي المدمرة والاقفالات الأوليغارشية التي أوجدتها.
لا خروج عن واقع التفخيخ السياسي ما لم تدخل الأزمة اللبنانية في نطاق التدويل وما يفترضه من استئصال الساحة اللبنانية من دائرة النزاعات البديلة والرديفة والمتوازية على الصعيد الاقليمي، وما لم يصار الى التعاطي مع تردداتها على أسس دولتية متماسكة على مستويات القرارات السيادية الخارجية والدفاعية، ووضع حد لواقع التبعية لسياسات النفوذ الإقليمية،كما ألفناها في واقعنا منذ ١٩٢٠، أو ما شهدته وتشهده الساحة الفلسطينية من إستثمارات متوالية من قبل سياسات النفوذ العربية والإسلامية، أو ما تعيشه سوريا والعراق وليبيا واليمن حاليا…،. إن معالجة الملفات اللبنانية المتلازمة غير ممكن خارجًا عن تحكيم دولي، يجيز الحوار الداخلي، ويضع حدا للنزعات الانقلابية، وينهي واقع الاقفالات الاوليغارشية، ويسمح باعادة تكوين الدولة اللبنانية على أسس سيادية وإصلاحية، تضع حدا للسياسات التدميرية التي انطلقت من مفارقات تكوينية ونزاعية، حالت دون تركز الكيان الدولتي على الأسس التعددية والليبرالية والدستورية التي كانت وراء نشأته. إن سياسة الفراغ الإرادية التي تعتمدها الفاشيات الشيعية وحلفاؤها في الأوساط الاوليغارشية، هي الطريق الاكيد نحو دخول لبنان دوامة الصراعات الاقليمية المفتوحة التي حولت هذه المنطقة مسرحا للنيهيليات السياسية-الدينية وحلقات العنف المغلقة التي لن تعطي للتواصل السياسي العاقل مجالا.