كيف يُمكن إنقاذ الإقتصاد اللبناني... بقلم السفير يوسف صدقة

  • شارك هذا الخبر
Friday, November 6, 2020

كتب السفير يوسف صدقة:

شهد الإقتصاد اللبناني، في أواخر العام 2019، أزمة خانقة نَتَج عنها انهيار مالي ومصرفي لم يعرفه لبنان حتى في أثناء الحرب التي امتدّت من العام 1975 إلى العام 1990.

وقد فَقَدَ لبنان في هذه الأزمة المُتمادية أهمّ القطاعات التي طبعته منذ الإستقلال، ألا وهو القطاع المصرفي، الذي شكّل عمود الإقتصاد اللبناني. هذا القطاع الذي صمد أمام العواصف خلال الحرب اللبنانية رُغم الإنخفاض الكبير للعملة الوطنية إزاء الدولار في ثمانينات القرن الماضي.

كما أدّت جائحة كورونا المُستَجِدَّة أيضاً إلى تجميد الحركة الاقتصادية على مساحة الوطن. وقد زاد من حجم الأزمة انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) الماضي، والذي أدّى إلى تداعيات إنسانية واقتصادية واجتماعية ما تزال آثارها ماثلة حتى اليوم.

المؤشرات السلبية:
سجّل لبنان مؤشرات اقتصادية سلبية ترافقت مع الإنهيار الاقتصادي والمالي، نذكر منها:

انخفاض حادّ في سعر صرف الليرة بالنسبة إلى الدولار بلغ أكثر من 80%، وارتفاع مستويات التضخم إلى ما فوق 120% بشكلٍ عام. كما ارتفعت أسعار بعض السلع إلى أكثر من 250%، وازدادت معدلات البطالة إلى مستويات قياسية تصل إلى 35% من القوى العاملة.
زيادة نسبة العجز التجاري، من 6 إلى 9 مليارات دولار حتى حزيران (يونيو) 2020، وتراجع الإنفاق الفردي إلى معدل 40%.
أما على صعيد النمو الاقتصادي فقد سجّل تراجعاً خطيراً، من 2,2% في العام 2013 إلى (6،6-) في العام 2020، ولم يشهد البلد هذا التراجع في النمو حتى خلال الحرب اللبنانية.
زيادة نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي من 135% إلى 167,7% في الفترة عينها.
زيادة كلفة الدين العام إلى الإيرادات الحكومية من 40,2 إلى 61,3 في المئة في الفترة عينها.
مقاربة الإنهيار المالي المصرفي:
أدّت السياسات المالية للحكومات اللبنانية منذ العام 1993 إلى العام 2019 إلى انخفاض العملة الوطنية إزاء الدولار. حيث تمّ صرف الأموال لتمويل النفقات عبر الإستدانة من مصرف لبنان، وعدم صرفها على استثمارات مُنتجة كالماء والكهرباء والبنية التحتية. تمّ هدر الأموال في تعيين آلاف الموظفين في إطار الزبائنية السياسية. وووضعت المصارف ودائع الزبائن بالدولار في المصرف المركزي، وسلّفتها للدولة.

إنّ سياسة مصرف لبنان في تقديرنا لا تتوافق مع قانون النقد والتسليف، حيث نصّت المادة 70 على “أنّ مهمة المصرف المركزي هي المحافظة على سلامة النقد وتقديم القروض للدولة. فتقديم القروض هو الاستثناء وليس القاعدة في سياسة المصرف”.

يعتبر الخبير الإقتصادي الدكتور توفيق كسبار، أنّ التيار المحافظ في المصارف تغيّر، فبعدما كانت تودع أموالها في الخارج، عادت وأودعت أموالها في مصرف لبنان، بناءً على إغراءات الفائدة، التي عرضها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، والتي تتجاوز عشر مرات سعر الفائدة السائدة بين البنوك “ليبور” (Labor). فالأموال لدى المصارف اللبنانية في الخارج صُفّيت، بعد استعمالها من قبل الدولة. وقد اعتبر أنّ الخطأ الموجود اليوم، وجود مصارف تفتقد إلى السيولة، مع مصرف مركزي يمثل احتياطاً سلبياً.

فتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، من العام 2015 كانت 37,5 مليار دولار وقد ارتفعت إلى 86 مليار دولار في أيلول (سبتمبر) 2019، من هنا فإنّ تعثّر الدولة هو نتيجة فقدان مصدر السيولة المحلي…

فشل برنامج الإصلاح الحكومي:
إزاء الإنهيار المالي والإقتصادي، قدّمت حكومة حسان دياب برنامجاً إصلاحياً بالتنسيق مع المجموعة الاستشارية “لازارد” (Lazard). وقد تضمنت الخطة، مساهمة منصفة من المستفيدين من السياسات المالية، التي اعتمدت في السنوات السابقة وتجنّب خصخصة أصول الدولة التي قد تتعرض للخطر، في حال تمّت إساءة إدارتها. كما عمدت الحكومة في برنامجها إلى وضع خطة للتعافي الاقتصادي والمالي تحمي الطبقة المتوسطة والفقيرة.

هذا وقد حاولت جمعية المصارف زعزعة الخطة الحكومية عبر صلات إعلامية مركزة وعبر لجنة المال والموازنة في مجلس النواب. وقد عرضت الجمعية خطتها والتي تتمثّل بتغطية الخسائر التي طالت أموال المودعين وخسائر مصرف لبنان عبر خصخصة أصول الدولة والتي تُقدّر بـ40 مليار دولار، عوضاً عن أن يساهم أصحاب الأسهم وكبار المودعين في المصارف في تحويل الخسائر وتحويل قيمة 2% من قيمة أصحاب الودائع الكبرى إلى أسهم مصرفية.

أدّى ذلك إلى فشل الخطة الحكومية وإضعاف موقف لبنان التفاوضي أمام صندوق النقد الدولي.

وسائل الخروج من النفق
صندوق النقد الدولي

مرّت دولٌ عديدة بأزماتٍ إقتصادية خانقة، ومنها قبرص واليونان، وتمكّنت من تجاوز الإنهيار المالي والإقتصادي، عبر سياسة تقشّف وتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات الأوروبية. والمطلوب اليوم من الحكومة الجديدة إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على السيولة النقدية لإعادة العجلة إلى الاقتصاد اللبناني وتشكيل وفد لبناني كفؤ ومتماسك للتفاوض مع خبراء الصندوق الدولي لأنّ نجاح التفاوض مع صندوق النقد سيكون مدخلاً للبنان إلى إعادة إحياء مؤتمر “سيدر” (CEDRE) الذي دعمته الحكومة الفرنسية.

المبادرة الفرنسية

قدّمت فرنسا ورقة إصلاح اقتصادية ومالية للحكومة اللبنانية سنذكر أهم العناوين التي تضمّنتها:

إعادة تأهيل مرفأ بيروت.
تنفيذ الإصلاحات، وتبادل وجهات النظر مع المجتمع المدني، واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، واتخاذ التدابير الوقائية التي طلبها الصندوق، ومنها ضبط رأس المال (كابيتال كونترول)، والتدقيق في حسابات مصرف لبنان.
تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، وإطلاق استدراج العروض للمعامل المنتجة للكهرباء على الغاز.
إنجاز التعيينات القضائية، وتعيين الهيئات الناظمة في الإتصالات والطيران المدني.
موافقة البرلمان على قانون استقلالية القضاء.
مكافحة الفساد والتهريب.
إصلاح الشراء العام (مشروع قانون حول الشراء العام).
المالية العامة: إعتماد وإعداد مالية مُتجانسة لسنة 2021…
في المحصلة النهائية، فإنّ الورقة الفرنسية هي ورقة تتضمن بنوداً إصلاحية في المجالين الإقتصادي والمالي، كان على الحكومات اللبنانية أن تقوم بها قبل الانهيار الذي حصل في أواخر العام 2019.

مؤشرات إيجابية رغم الإنهيار الإقتصادي
أشار الخبير الاقتصادي الدولي الدكتور كمال ديب إلى أنه ورغم الإنهيار الإقتصادي والمالي، فإنّ الأزمة قد أنتجت بعض الإيجابيات ومنها:

زيادة مساحة الأراضي اللبنانية المزروعة بمعدل 40% منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
زيادة عدد المصانع اللبنانية الغذائية بنسبة مقبولة، وتراجع البضائع المستوردة المنافسة من الأسواق.
هبوط فاتورة الإستيراد في التسعة أشهر الأولى من العام 2020، من 16 مليار دولار في العام 2019 إلى 7 مليارات دولار، ما يعني الإستغناء الكبير عن الدولار لتمويل الإستيراد باهظ التكلفة.
كيفية الخروج من النفق

رغم المؤشرات السلبية العديدة التي أطاحت بالإقتصاد اللبناني والنظام المالي والمصرفي، يُمكن للبنان أن يستعيد الثقة بإعادة الإنفتاح مع الدول العربية الخليجية، لأنّ سياسة المحاور أثّرت في الإقتصاد اللبناني بشكلٍ مباشر. فالسياسة غير مفصولة على الإطلاق عن الإقتصاد.

إنّ مراجعة النموذج الإقتصادي الليبرالي والقائم على الإقتصاد الريعي، يتوجب إعادة النظر في أركانه عبر الحَوكَمة الرشيدة والبدء بالإصلاح الجذري في قطاع الكهرباء، ووقف الهدر في الإدارات العامة، وإقفال عدد كبير من المؤسسات العامة غير المُجدية التي تقوم بمهام الوزارات عينها، وكذلك العمل على إقفال المعابر غير الشرعية، وتحصيل الضرائب على الأملاك البحرية.

كما على الحكومة أن تضع حداً لمخالفات المصارف التي أطاحت بودائع اللبنانيين، عبر الإستثمار في سندات الدين الحكومية رُغم إدراكها بالأخطار وذلك طمعاً بالربح السريع. تجدر الإشارة إلى أنّ جميعة المصارف أنشأت جماعة ضغط (لوبي) يشمل سياسيين ووسائل إعلام وإعلاميين للدفاع عن مصالحها.

يبقى أنّ الحوكمة الرشيدة، هي الأساس في إدارة شؤون الدولة.

فعلى الطبقة الحاكمة أن تخدم مطالب الشعب التي عبّر عنها في ثورة 17 تشرين الأول المجيدة، وإلاّ ستكون خيارات الوطن أحلاها مرّ، السقوط في الهاوية أو الدوران في ضواحي جهنّم.