مقتلة المُدرس الفرنسي تتفاعل.. الجمهورية العلمانية على المحك! بقلم بشارة غانم البون

  • شارك هذا الخبر
Sunday, October 25, 2020

باريس - 180 post

كيف بدت مواقف الداخل الفرنسي حيال تحرك الحكومة الفرنسية بعد حادث قتل وقطع رأس أحد المدرسين بإحدى ضواحي باريس، وكيف سيتعامل الحكم الفرنسي مع ردود الفعل الشاجبة في عدد من العواصم العربية والاسلامية حيال هذه التوجهات؟

لم تنته تداعيات حادث قطع رأس المدرس الفرنسي سامويل باتي، الذي قتل في اعتداء بإحدى ضواحي العاصمة الفرنسية على خلفية عرض رسوم كاريكاتورية للنبي محمد على تلامذته كانت نشرتها صحيفة “شارلي إيبدو”، بل هي مرشحة للتصاعد داخلياً وخارجياً بكل أبعادها المعقدة. وقد برزت معطيات ينبغي أخذها في الاعتبار وأبرزها:

أولاً، ذهبت غالبية التيارات الفرنسية باتجاه التضامن مع إجراءات الحكومة في مواجهة ما وصفتها بـ”الاسلاموية السياسية”، وذلك خشية ان يستغل اليمين المتطرف هذا الحادث لكسب الأصوات في الانتخابات الإقليمية والرئاسية المقبلة في فرنسا.

ثانياً، يجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه مجبراً على التقارب مع طروحات اليمين الفرنسي المعارض في معالجة مجمل ملف الديانة الإسلامية في فرنسا، وذلك لسببين رئيسيين هما تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في الرأي العام من جهة واقتراب موعد الحملة الانتخابية الرئاسية التي بدأ ماكرون التحضير لها من جهة ثانية.

ثالثاً، يطالب المعارضون في اليمين الوسط واليمين المتطرف الحكومة الفرنسية بأفعال “بعيداً عن الأقوال ومهرجانات التكريم”، حتى أن مارين لوبين زعيمة حزب “التجع الوطني” اليميني المتطرف انفردت بزيارة مدينة كونفلان سانت اونورين حيث قتل المدرس ووجدت في الحادث مناسبة لتعزيز دعوتها لوقف الهجرة وربطت بين الأعمال الإرهابية التي تواجهها فرنسا وبين الجالية الإسلامية، لتطالب بسحب الجنسية الفرنسية من جميع المحكومين بتهم أمنية وطردهم إلى بلدانهم الأصلية!

رابعاً، ترك الحادث تأثيراً قوياً في الرأي العام الفرنسي المنهك من تبعات أزمة كورونا الصحية المتصاعدة في فرنسا، وذلك بسبب الطريقة التي قتل فيها المدرس، ولأن الحادث وقع في مؤسسة تربوية تمثل أحد رموز الجمهورية العلمانية، الأمر الذي وحّد جميع الأطياف السياسية الفرنسية وفي طليعتها الأغلبية الحاكمة في إدانة العملية والدعوة إلى تحقيقات معمقة في خلفيات الحادث واتخاذ إجراءات قضائية وأمنية ملموسة، فضلاً عن تسريع إقرار قانون تعزيز النظام العلماني الذي كان الرئيس الفرنسي قد أطلقه تحت مسمى مواجهة “الانفصالية الإسلاموية”، حيث ستناقش الحكومة مشروع قانون بهذا الصدد في التاسع من كانون الأول/ديسمبر المقبل ليقدم إلى البرلمان مطلع السنة المقبلة.

يتسم المزاج الفرنسي العام بـ”الغضب” ويدعو الحكومة الى المزيد من “التشدد”، وهذا ما أظهرته استطلاعات الرأي. ففي استطلاع للرأي نشرت نتائجه في نهاية الأسبوع يبرز ان 8 فرنسيين من 10 يحبذون استعمال الكاريكاتور الذي يسخر من الديانات كأداة تربوية للتطرق الى حرية التعبير

خامساً، اجماع الاوساط الاعلامية على القول ان كلمة ماكرون خلال حفل تكريم المدرس سامويل باتي في جامعة السوريون كانت “إنسانية وحازمة” خصوصا لجهة وصفه جريمة القتل بانها “اعتداء على قيم الجمهورية الفرنسية في مبادئها الأساسية” إذ أن “المسألة ليست قضية إيديولوجية أو سياسية بل قضية مبادىء”، وبالتالي تحول هذا المدرس “رمزاً لحرية التعبير في فرنسا”.

سادساً، فتحت هذه الجريمة الباب واسعاً أمام بازار المزايدات السياسية ومنها ما جاء على لسان روبير مينار رئيس بلدية بيزييه وهو من المقربين سابقاً من “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، الذي ندّد بالذين “يجدون اعذاراً للاسلاموية السياسية”، وإتهم اليسار بأنه “يخون فرنسا، ويخون الشعب الفرنسي”. كما رأت اصوات سياسية يمينية ويسارية توصف بـ”المعتدلة” بأن اجراءات الحكومة للتصدي لانتشار ظاهرة “الاسلام السياسي المتطرف والمناهض للعلمنة” جاءت “متأخرة وضعيفة وغير فعالة ولا تتناسب وحجم الأخطار”.

سابعاً، يتسم المزاج الفرنسي العام بـ”الغضب” ويدعو الحكومة الى المزيد من “التشدد”، وهذا ما أظهرته استطلاعات الرأي. ففي استطلاع للرأي نشرت نتائجه في نهاية الأسبوع يبرز ان 8 فرنسيين من 10 يحبذون استعمال الكاريكاتور الذي يسخر من الديانات كأداة تربوية للتطرق الى حرية التعبير. وهي فكرة تحبذها نسبة 80 بالمئة من انصار اليمين المتطرف والحزب الاشتراكي وحزب “الجمهورية الى الامام” وحزب “الجمهوريين”، في حين يحبذها حزب اليسار المتطرف بنسبة 69 بالمئة. وأظهر استطلاع آخر أن اكثر من ستين بالمئة من الفرنسيين يعارضون تعليم اللغة العربية في المدارس كما دعا اليه ماكرون.

ثامناً، هذا المناخ العام جعل القيمين على المؤسسات والجمعيات الاسلامية الفرنسية في موقف دقيق وحرج لجهة إلتزام التفهم والتهدئة، وقد ظهر ذلك من خلال النص الذي اقترحه “المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية” وأرسله الى أئمة المساجد لكي يستوحوا منه أفكارا لخطبة الجمعة، ويتضمن النص الاشارة الى “تأكيد التزام مسلمي فرنسا بمكافحة الإرهاب الإسلامي”. كما يبرز “حرص مسلمي فرنسا على جمهورية علمانية، غير قابلة للتقسيم، ديمقراطية واجتماعية تسمح لمسلمي فرنسا من ممارسة دينهم بحرية او عدم ممارسة أي دين”. وبرزت مواقف متقدمة لشخصيات اسلامية أدانت “التعصب والتطرف الإسلامي”، ومن بينها إمام مسجد ضاحية درانسي (شمال باريس) حسن شلغومي الذي أكد أن “التطرف الإسلامي هو مرض الإسلام الذي يجب مواجهته”.

تاسعاً، لا يقتصر التصدي لانتشار “الاسلام السياسي المتطرف” على وسائل الاعلام والتواصل التقليدية بل يشمل الفضاء الرقمي ايضا. ومن الإجراءات الهامة التي تعمل عليها الحكومة حاليا ضبط الشبكات الاجتماعية التي لعبت دورا هاما قبل الحادث في مناهضة ما قام به المدرس من عرض للرسوم الكاريكاتورية المسيئة على التلاميذ. وترغب الحكومة ان تتعدى مكافحة هذه الموجة الحدود والتشريعات الفرنسية ليشمل الاطار الاوروبي. لأجل ذلك تعمل السلطات الفرنسية حاليا على التواصل مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل لتسريع الإجراءات التشريعية الأوروبية الخاصة بإلزام المنصات الرقمية العالمية بالتعاون السريع لحجب المحتويات الإرهابية خلال مدة أقصاها ساعة واحدة. يذكر أن باريس تطالب بإتخاذ إجراءات أوروبية حازمة لضبط محتويات شبكة الانترنت والتويتر بحيث لا يقتصر ذلك على التصريحات أو أعمال التحريض، وتجري مفاوضات على هذا الصعيد منذ العام 2018 وقد تم الحصول على موافقة الدول الأعضاء منذ عدة أشهر في انتظار مصادقة البرلمان الأوروبي.

عاشراً، التحرك الفرنسي يتناول ايضاً تكثيف الاتصالات على الصعيد الثنائي مع عدد من البلدان المعنية بالرعايا الأجانب المقيمين في فرنسا والمدرجين على قائمة الأشخاص الخطرين المسماة (الملف S) والمتهمين بالتطرف، وذلك لإيجاد الوسائل الكفيلة بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية علما بأن وزير الداخلية قد أعلن منذ أيام عن قرار ترحيل أكثر من مائتي شخص لهذا السبب.

استحقاقان قريبان ينتظران هذه القضية الحساسة. الأول يرتبط بكيفية تعامل الأوساط التعليمية والتربوية مع هذا الموضوع في الاسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، موعد عودة الطلاب الى مقاعد الدراسة. الثاني في الاسبوع الثاني من كانون الأول/ديسمبر المقبل، موعد اقرار الحكومة الفرنسية مشروع القانون الذي تعده من اجل مكافحة ما تسميه “الانفصالية الاسلامية”

ولكن ماذا عن ردود الفعل التي بدأت تظهر في عدد من الدول العربية والاسلامية للتنديد بنشر الرسوم المسيئة الى الدين الاسلامي ورموزه والدعوة الى اتخاذ خطوات ضد فرنسا كمقاطعة منتجاتها مثلاً؟

تسجل أوساط متابعة لهذا الملف عدداً من النقاط من بينها:

أولاً، لا تزال ردود الفعل الشاجبة ودعوات المقاطعة تقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي وهي محدودة. ردة الفعل الرسمية التصعيدية الوحيدة البارزة حتى الآن هي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتأتي، حسب هذه الأوساط، “في سياق مواجهة فرنسية – تركية مستمرة مرتبطة بالتباعد حول عدد من القضايا الاقليمية (اليونان، ليبيا وغيرها).

ثانياً، تجاهل اعلامي فرنسي لافت للإنتباه، بحيث لوحظ غياب اية اشارة إلى ردات الفعل هذه (عربية وإسلامية) وتسليط الضوء على المواجهة الفرنسية – التركية والتصعيد بين أنقرة وباريس بعد استدعاء الأخيرة سفيرها في العاصمة التركية “للتشاور”.

ثالثاً، أعرب عدد من الحكومات العربية والاسلامية “الصديقة” لفرنسا عن القلق من المنحى الحذر الذي يمكن ان تتخذه هذه القضية وتأثيرها على الرأي العام في دولها وتخوفها من استغلال بعض الجهات الحزبية الداخلية (الاوساط القريبة من “الاخوان المسلمين”) أو الدول الاقليمية (ابرزها تركيا) “لصب الزيت على النار وتأجيج المشاعر”. وتسعى هذه الحكومات “الصديقة” لإيصال هذه الرسالة الى السلطات الفرنسية بالطرق الديبلوماسية وبعيداً عن الأضواء الاعلامية نظراً لحساسية الموضوع الذي تعتبره باريس “سيادياً بإمتياز”.

رابعاً، تفضل هذه الحكومات أن تتولى المنظمات الاقليمية (منظمة المؤتمر الاسلامي، جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي) التحرك والتذكير بالمواقف المبدئية والمتمسكة بـ”نبذ الكراهية وتعزيز منهج التسامح والحوار بين الثقافات والاديان”.

تجدر الإشارة إلى أن استحقاقين قريبين ينتظران هذه القضية الحساسة. الأول يرتبط بكيفية تعامل الأوساط التعليمية والتربوية مع هذا الموضوع في الاسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، موعد انتهاء العطلة المدرسية الفصلية وعودة الطلاب الى مقاعد الدراسة. الثاني هو في الاسبوع الثاني من كانون الأول/ديسمبر المقبل، موعد اقرار الحكومة الفرنسية مشروع القانون الذي تعده من اجل مكافحة ما تسميه “الانفصالية الاسلامية” وتعزيز التدابير ضد الأعمال المناهضة للعلمانية، وذلك قبل عرضه على الجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الشيوخ من اجل مناقشة واقرار التشريعات الجديدة.