رضوان السيد - هذه هي الأخطار على ديننا

  • شارك هذا الخبر
Sunday, October 25, 2020

أساس ميديا

اعتبر الرئيس الفرنسي في خطابه الذي صار شهيراً أنّ الإسلام بعامةٍ في أزمة على مدى العالم. والإسلام في فرنسا هو جزءٌ من الأزمة الشاملة. ويتجلَّى ذلك في تكوّن ثقافة مضادة أو انفصالية تصطنع عزلة أو مجتمعاً مضاداً يواجه قيم وثقافة وقوانين الجمهورية الفرنسية العلمانية. ولأنه رئيس الجمهورية الفرنسية؛ فإنه طرح تصوّراً يتضمّن قوانين وإجراءات وتنظيمات لمكافحة الظاهرة الانفصالية. هل هذا التشخيص صحيح أو لَهُ شواهد ومعالم بحيث يمكن الوصول إلى رأي في جدوى الإجراءات والأفكار المقترحة للعلاج؟

تصوّرُ الرئيس الفرنسي ليس صحيحاً، لكنه ليس جديداً. ففي العام 1993 نشر الباحث الاستراتيجي الأميركي صمويل هنتنغتون بمجلة "الشؤون الخارجية" الأميركية أطروحته الكبرى حول " صدام الحضارات" والتي صارت كتاباً عام 1996. فالصراعات بحسبه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، لن تكون سياسيةً واستراتيجية، بل ستكون بين أديانٍ وحضارات. ولأنّ الغرب الديمقراطي انتصر في الحرب الباردة، وثقافته القيمية والدينية هي الحضارة اليهودية – المسيحية؛ فإنّ المستقبل العالمي يتوقف على علائق الحضارات الأخرى الحيّة بالحضارة المنتصرة. والحضارات الحيّة، التي ما تزال مؤثرة وعددها ست أو سبع، وكلّ منها تدور من حول دينٍ معيّن؛ فإنّ الشواهد تدلّ على أنها ستنضوي أو ستُزامل تلك الحضارة المنتصرة. ومن تلك الحضارات الأرثوذكسية والكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية والإسلام. ويظهر نوعٌ من الاستعصاء في الصين (الكونفوشيوسية والبوذية)، لكنه عابر بسبب النجاح الاقتصادي الرأسمالي، والانضباط الأخلاقي، رغم بقاء الديكتاتورية. ولذلك، فالأرجح أن تصير الصين أيضاً طرفاً كبيراً ومتعاوناً في حضارة المستقبل العالمية. الإسلام وحده هو الذي يشكّل استثناءً، لأنّ حضارته لها "حدودٌ دمويةٌ" مع حضارات العالم الأُخرى، ومع الحضارة الغربية بالذات، التي هي حضارة العالم الآن. وهنتنغتون لا يعيد صدامية الإسلام مع الآخرين إلى جوهره، بل يستند إلى المستشرق برنارد لويس الذي يعيد التوتر الإسلامي الحديث والمعاصر إلى فشل المسلمين في اللحاق بالتقدّم الغربي في المائتي عام الماضية، ووقوعهم تحت الاستعمار، وتطوّر أحقاد لديهم بسبب هذا الفشل!

ناقشتُ هنتنغتون في تصوّره هذا مرّتين: مرة بهارفرد عام 1997، ومرة بالجنادرية بالرياض عام 2006. وفي كلّ مرة كان يشير إلى الأحداث الإرهابية باعتبارها دليلاً على هذا الاصطدام المروِّع بين الإسلام وحضارة العالم. وفي المرة الثانية نصحني بالعودة إلى كتاب برنارد لويس الجديد آنذاك: "أزمة الإسلام" (2003)، وقبله: "كيف حدث الخلل" (2002)!

معظم الباحثين الاستراتيجيين ما وافقوا هنتنغتون على استنتاجاته، رغم أحداث الإرهاب المتكاثرة. لقد رأوا أنّ الصراعات لا تحدث بين الحضارات، بل بين الأُمم والدول. أما الظواهر العنيفة من جانب مسلمين وغير مسلمين، فإنها لا تهدّد سلام العالم. ولذلك، ومنذ أكثر من عشر سنوات، هناك الحديث المستمرّ عن الصراع الأميركي – الصيني. وهناك الحديث عن موقف الهند، وعن تحالف الباسيفكي المقبل (؟). فالذي تغيّر ليس طبيعة الصراعات، بل طبيعة الحروب. فبين الكبار هناك الصراعان الاقتصادي والاستراتيجي على المجالات والموارد والاحتكارات. وهناك الاختلال البيئي. أما النزاعات المسلّحة، فتنشأ بين الصغار، مدفوعة من جانب الكبار والأوساط.

إنّ الجديد في ظواهر ما بعد الحرب الباردة، هو تفجّرات الهويات الإثنية والثقافية والدينو- ثقافية، وهي أصغر من الحضارات بكثير، بل إنّ الحضارات في زمن العولمة ما عاد لها مكان أو مفهوم شامل، لا في مجال الإسلام ولا في غيره. وصحيح أنّ هناك صعوداً في الهويات في الهند وميانمار والصين مثلاً. لكنّ الصعود الذي يغيّر الحكومات والأنظمة يحدث في أوروبا، بلاد الحضارة اليهودية - المسيحية بحسب هنتنغتون! ويخضع سياسيو الأحزاب لابتزازات ومزايدات اليمينيات الصاعدة، والتي تُركِّز على مسائل الهجرة والمهاجرين، والأصيل والدخيل. وحتى في الولايات المتحدة، يؤيد الإنجيليون الجدد ( ذوو التوجّه الأصولي) الرئيس دونالد ترامب، لكنّ أكثر ناخبيه كانوا وما يزالون من سكان الضواحي والذين يشعرون بالتهميش، ويحسُّون بالمنافسة من الملوَّنين ومن المهاجرين! وفي عام 2009 أصدر أستاذ العلوم السياسية Hebbrad دراسته التي صارت مشهورة عن الحكومات العلمانية وسياساتها الدينية في الولايات المتحدة والهند ومصر. ففي هذه البلدان الديمقراطية وشبه الديمقراطية، يعمد الساسة لاجتذاب المتطرّفين في مسائل الهوية التي تهمّهم من أجل الشعبية في الانتخابات وفي المشهد العام. وفي نصف الحالات ليس الدين هو الذي يلعب دوراً معيّناً، بل المصالح الحقيقية أو المتوهَّمة للعامة، وهي سياسات شعبوية، صارت موضةً سائدةً في القرن الحادي والعشرين.

وعلى أيّ حال، هناك ثلاثة أخطار على ديننا وأوضاعنا الاجتماعية والدولتية، وليس خطراً واحداً:

- الخطر الأول والأكبر هو الاعتقاد بأنّ الأزمة هي أزمة الإسلام ذاته. ولأنّ المسلمين أكثر من مليار ونصف المليار، فبحسب هذا الانطباع يكونون خطراً على العالم. وهذا أمرٌ شديد الفظاعة، وإن لم يشارك فيه الكثيرون، لكنّ منهم على سبيل المثال الرئيس ترامب والرئيس ماكرون، ورؤساء جمهورية أو حكومة أو زعماء أحزاب كبرى في أوروبا وخارجها.

- الخطر الثاني أنّه وبسبب كثرة الحوادث العنيفة؛ فإنّ الجهات الأمنية في معظم الدول صارت تعتبر مواطنيها المسلمين خطراً أمنياً. بل هناك الآن قوائم طويلة جداً بأسماء أشخاص في كلّ الدول، تجري مراقبتهم باعتبارهم جاهزين لممارسة العنف. وينشر ذلك بعد ظهور القاعدة وداعش، واندفاع "الجهاديين" نحوهم من أوروبا وسائر أنحاء العالم، أجواء حذرٍ ورُعْبٍ في أوساط الجاليات المليونية، بأوروبا، بل وفي أوساط مائتي مليون مسلم في الهند، وثلاثين أو أربعين مليون بالصين! وهذا تهديدٌ حاضرٌ ومستقبلي لأمن هؤلاء وسكينتهم وقدرتهم على الاندماج أو إرادتهم ذلك.

- الخطر الثالث أنّ ظاهرة "الجهاديين" في أوساط الإسلام السني على الخصوص، دفعت دولاً كبرى ووسطى وجهات عدة لاختراقهم وتحويلهم لكي يعملوا لديها بعدة أشكال. البوليس يحوّل بعضاً منهم للتجسس على مجتمعاتهم وبني قومهم. والجهات المهتمة بنشر الاضطراب في البلدان العربية والإسلامية تحوِّلهم – بعد أن تفككت تنظيماتهم تحت وطأة الحرب العالمية على الإرهاب – إلى ما يشبه المرتزقة يُستخدمون في نواحٍ وأصقاعٍ شتّى، ولأغراض شتّى، سواء أكانوا يدركون ذلك أم لا يدركونه!

إنّ ما قاله الرئيس ماكرون، وما يقوله غيره كلّ يوم، يثير بالطبع السخط والانزعاج. لكن لا ينبغي أن نتجاهل أنّ ذلك كله، وبعد عملٍ طويلٍ عليه لثلاثة عقودٍ، صار سياسات، ليس تجاه الدين ومعتنقيه، بل وتجاه الدول أيضاً. علينا أن نتعامل إذن مع هذه الظاهرة، بما يؤدّي إلى حفظ ديننا ودولنا الوطنية، واستقرار المجتمعات، والعلاقات الطبيعية مع العالم.