بول ناصيف عكاري - الثورة...المنظومة...المافيا

  • شارك هذا الخبر
Monday, October 19, 2020

النهار

"إنّ الثورة التي تستهدف تغيير نظام المجتمع ونظام القيم فيه وإحلال نظام جديد معيّن محلّه، لا تنجح إلّا بمقدار ما تكون مدركة لطبيعة الكلّ التي تهدمه وطبيعة الكلّ الذي تبنيه" (ناصيف نصّار). النظام الحالي يمكن توصيفه بالأوليغارشية المافياويّة اللبنانيّة وهي كناية عن حكم أقليِّة/فئة صغيرة من المرتزقة مكونة من مجرمي حرب وسلم بحيث سيطرت على كافة مفاصل الدولة واستباحت الأعراض والأرواح والأموال والأديان. ما لم يحدث أي تغيير إيجابيّ، فمن المرجح أن ندخل في حكم الغيرونتوقراطية المافياويّة وهي حكم الأقلية ذاتها التي يخضع فيها الكيان اللبنانيّ لحكم قادة هم أكبر عمرًا بكثير من معظم السكان البالغين. بكلّ بساطة، نحن أمام دولة مافيا تشبه المنظومة البلغاريّة بمعظم تفاصيلها ولكنها تميّزت عنها بأنها السباقة في نهب ودائع المواطنين في المصارف ضمن أكبر عملية نصب واحتيال في التاريخ الإنسانيّ الحديث.

هذه المنظومة تمكّنت من الإنقضاض على مفاصل الدولة وتغلغلت سيطرتها على المال والقضاء والأمن والإستخبارات والإعلام ودمّرت القيم والعلم وأغرقت المجتمع بالمخدّرات والسلاح، مما مكنها من القفز بوقاحة فوق الدستور والقوانين وخنق الإقتصاد الوطنيّ تحت غطاء مذهبيّ مقيت. نشأت المنظومة مع أقطاب "الإتّفاق الثلاثيّ" بالتكافل والتضامن مع النظام السوريّ. قتل أحدهم من الموارنة فحلّ مكانه آخر من السنّة وبدأت المنظومة تتكون... تجدر الإشارة أنّه لتاريخه نجد الرابط العضوي والمتجذر بين من هو حيٌّ لا يرزق. أمّا التسوية الأخيرة فأفضت الى إدخال أحدهم، بغطاء أحدهم، الى هذا النادي المغلق الحصريّ والبدء في الإقتطاع من حصص أعضائه الثلاث والإعتداء على رزقهم مما انعكس توتراً شديداً على الساحة اللبنانيّة من مبدأ رفض كلّ جسم غريب. وتكوّنت المنظومة الرباعيّة تحت مظلّة أحدهم...

بعد الطائف، أنشأ التحالف السوريّ-الإيرانيّ منظومة رديفة، غير خاضعة للدستور ولإتفاق الطائف، للسيطرة على ديناميكيّة الأحداث في لبنان. كما تكفّل عهد الوصاية وأزلامه، المدعوم أمريكيّاً، بالقضاء على الدولة والقيم والأخلاق الإجتماعية والوطنيّة متزامناً مع وفرة المال في الاسواق واستسهال اقتراضه وصرفه/نهبه دون حسيب أو رقيب ممّا ساهم بإرساء نهج جديد من الفساد ومفهوم جديد شرير للأخلاق غريب عن القيم الموروثة. بالإضافة الى الفراغ والقمصان السود، تمكنوا من دكّ الشرفاء في الوطن في سجن الممانعة برعاية غير عربيّة. وخُلِقت المافيا اللبنانيّة التي انجبت دولتها المافياويّة وكلّ ذلك تحت غضّ نظر العالمين العربيّ والغربيّ.
ترتكز بنية هذه المنظومة المافياويّة على خمسة مداميك متشابكة متراصّة. الأول بلباس مدنيّ وهو يتكون من مجلس ملّيّ مدنيّ برئاسة "العراب/الدون" مؤلّف من "زعماء الصف الأول" أو "الكابو" الذين يرأسون المجموعات الحزبيّة/المذهبيّة الأساسيّة في البلد. يليهم "زعماء الصف الثاني" الذين هم أقلّ قدرة ونفوذ من أوليائهم وفي الوقت نفسه يتربصّون بهم. العراب يخضع للرئيس الأكبر، وهو مسؤول عن تأمين الغطاء الشرعيّ والقانونيّ والأمنيّ والعدليّ للأعمال المافيويّة وحل النزاعات وتأمين انتظام الحصص وصياغة التفاهمات مع المافيات الأخرى من داخليّة وخارجيّة. أمّا الأعضاء فينتظم عملهم بكلّ احتراف وتفنن بواسطة أزلامهم في الدولة والأمنيّين التابعين والقضاة المأجورين وزبانيتهم. للمنظومة مستشارين محنّكين أشرار مهمتهم التنسيق وحلّ الخلافات وإخضاع الجماهير وتأمين تنفيذ مطالب القيادة العليا.

امّا الثاني، بقيادة الرئيس الأكبر وبقوة السلاح غير الشرعيّ "الإلهيّ" والترهيب والرشوة والمكائد والاغتيالات مع خيانة معظم العاملين في الشأن العام (المدنيّ والعسكريّ والقضائيّ...) والماليّ وسوء تدبير من معظم الوطنيّين تمكنت هذه الفرقة المرتزقة من القبض على السلطة المطلقة ومطبقةً على الفرقة الأولى وعلى كافة مؤسسات الدولة. ومن المتعارف عليه أنّ "السلطة تميل الى الإفساد، والسلطة المطلقة تفسد إفساداً مطلقاً. وأن الرجال "العظماء" (حاشا في بلاد الأرز) دوماً، وفي الأغلب، رجال سيئون". وهكذا دخل السلاح في منظومة الفساد ولحماية الفساد من أجل مصّ أموال الدولة لتغذية بيت ماله وتمكين سلطته لينتصر مشروعه المستورد.
من ثمّ، أُدخلت الميليشيا الماليّة، بمعيّة مصرف لبنان ووزارة المال، بجشعها ونصبها وظلمها، من مصارف وصيارفة ورجال أعمال ومتعهدّين وما شابه كشريك مضارب في المنظومة. أخذت على عاتقها تمويل عمليات الإثراء غير المشروع والنهب والسرقات والمشاريع الوهميّة والإلهيّة وكلّ ذلك من أموال الناس والأرامل والمتقاعدين وتحت اشراف الدون والكابوات وبحماية السلاح. بالإضافة، التزمت غسل الأموال المتأتيّة من أعمال الجريمة المنظّمة والفساد هالكةً أموال المودعين وضاربةً الإقتصاد الوطنيّ ومفقرةً المجتمع والماليّة العامة "كرمى عيون" الحراميّة. هذه الفرقة هرّبت أموال اللصوص الى الخارج، سرقت، أساءت الأمانة، شهدت بالزور، وظلمت شعباً آمناً من دون رفّة جفن سارحةً مارحةً مطالبةً بحقٍّ باطلٍ.

ورابعاً، من أجل تأمين غطاء الهي لهذه المافيا، إنخرطت الميليشيا الدينيّة/المذهبيّة بملء إرادتها وبكلّ تجلياتها الشريرة، فأمعنت فساداً في البشر والأرض. حمت المجرم والقاتل والفاسد والسارق والزانيّ وشاهد الزور والكاذب المقيت وابتعدت عن رسالتها بُعد الملائكة عن جهنّم. وكلّ ذلك من اجل إشباع الغريزة الدنيويّة وبعضٍ من السلطة والوجاهة. وهذا أكبر اثبات أن الدين كما يتجلّى ويُفهم ويُعلّم في لبنان هو صنعة إنسانيّة شريرة والله عزّ وجلّ هو بالتأكيد براء منهم.
وأخيراً، ومن أجل تغطية ارتكابات وكبائر المنظومة استُعمل الإعلام، بكافة مكوناته، بكلّ حرفية من خلال إعلاميّين مأجورين شغلهم الشاغل بث السموم والأكاذيب وتقديم اطروحات المنظومة المنزّلة لتدخل في لاوعي الجماهير وبالتالي السيطرة على عقولهم.

عذراً قداسة البابا! لبنان أصبح رسالة شرّ وفساد ومظالم وليس رسالة سلام بين الشعوب كما أردت. "زعماء" جهلة شريرون فاسدون وشعب كاذب خبيث ماكر جاهل تواطئوا على ثورة شريفة ووطن آمن كان مقدراً له أن يكون تلك الرسالة. لبنان، شعباً ودولةً، أصبح كياناً بلا ضمير...
هذا هو الكلّ المراد هدمه. أمّا طبيعة الكلّ المبتغى بناؤه فهو بسيط جداً: انتفاضة المؤسسة الدينيّة على ذاتها وعلى الشرّ المستطير في البلد من أجل انشاء دولة أهل الخير وإعادة انتاج مجتمع متجدد مبني على القيم والأخلاق الدينيّة واللبنانيّة الأصيلة، وانتفاضة للضمير والعدالة في القضاء والأمن من اجل قيام مجتمع عادل ووطن آمن، وثورة إنسانيّة من أجل إستعادة الإنسان الضال من جمهوريات الشرّ والظلم، وثورة إعلاميّة من أجل تبيان الحقّ والحقيقة التي خانوها.

من هذا المنطلق، يجب على الثوار القيام بكلّ ما يلزم من ضغوط وتحركات ومواجهة من أجل حثّ من يلزم على إعادة إحياء ضمائرهم الإنسانيّة والوطنيّة، وإلّا الضرب بيدّ من حديد. كل ّ هذا يملي على مجلس الأمن فرض حماية دوليّة عبر قوات سلام محايدة (بالتنسيق مع الجيش اللبنانيّ؟) على جميع الأراضي اللبنانيّة لتمنح اللبنانيّين الحرّية الضروريّة لكي يعيدوا النظر في صيغة جديدة لوطنهم تراعي "أحكام التنوع في الوحدة" التي بُني عليها لبنان الكيان والوطن.