ليال الإختيار - عندما يصبح الجوع وجهة نظر

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, June 2, 2020

غريب حال بعض محازبي السلطة هذه الايام. يعيشون ازدواجية مرضية غريبة، او ما يعرف بالسكيزوفرينيا، التي تصل حد الباثولوجيا المجتمعية الحزبية، وأحياناً حد الشخصية السيكوباتية او psychopathic personality.

تقول لهم: فقر، يقولون لك: مش شي جديد.

تقول لهم: عوز، يقولون لك: فتّش على تركة 30 سنة.

تقول لهم: بطالة وهجرة ونزف آخر ما تبقّى من ناس وقدرات، يقولون لك: التعطيل هوّي السبب.

حالة هؤلاء هي ما يسمّيها العلم: حالة عدم الاقرار أو عدم الاعتراف بالواقع أو الإنكار. فلسفياً، الأكثر عرضة للإصابة بهذه الحالة هم المرضى المدمنون على شيء ما، كما الأشخاص الذين تعرّضوا لصدمة.

امّا سياسياً، فالمرشح المثالي لمرض الإنكار هو الجمهور الذي أدمن على زعيمه واعتبره المخلّص في زمن الميليشيات والحرب. الّا انه، وما ان استلم «المخلّص» سدة الحكم، حتى بدأت صدماته تتوالى وتكبر، بعدما سقطت الشعارات امام الصفقات وتوالت الانهيارات الاخلاقية والمبدئية. ولازَمه الاحباط الذي راكمه أداؤه السلطوي.



فلسفياً ايضاً، حالة الهروب والإنكار تترجم بتصرفات من تسكنه، على الشكل التالي: إلغاء الفشل من قاموسه، عذر حاضر وجاهز لكل الامور والاخطاء.

إعتبار انّ الجميع على خطأ، وهو وحده على حق دائماً وفي كل أزمة وكارثة قبل والآن وبعد...

العيش في دوامة انّ الجميع يتآمر عليه، ما يولّد حالة إضافية من البارانويا، تتجسد في الهروب إلى لغة الشتائم والتخوين والعنف اللفظي، وأحياناً الجسدي، للدفاع عن الذات المريضة، ضد «الأعداء» و«المتآمرين» و«الخونة» المتخيّلين.

امّا في السياسة، فتترجم هذه الحالة بطريقة التعاطي مع جميع الملفات عند فريق السلطة هذا بظاهرة معاكسة لأبسط مفهوم الديمقراطية، ألا وهي ظاهرة أن تتصرّف وكأنك معارض، فيما أنت تقبض على كل السلطة.

فالنظام الديمقراطي يقوم على ثنائية بنيوية مؤسسة له: موالاة ومعارضة. أمّا الشعبويات المريضة فتقلب هذه المعادلة، عن قصد وعمد، أو عن مرض وهلوسة وهذيان. في المحصّلة يذهب الشعبوي إلى التفكير والتصرف والتكلم، كأنه معارض، فيما هو الحاكم. ويدأب على اتهام المعارضة بالتقصير والفشل والتعطيل، وكأنها هي السلطة، فيما هي مجرد معارضة لسلطته المطلقة...

هكذا يستبق الحاكم الشعبوي فشله، بإسقاط اللوم على الآخرين من خصومه. أو يبرّر موبقاته بموبقات الآخرين الذين ليسوا أفضل حالاً منه على اي حال. وفي الحالتين يعيش نظرية المؤامرة الدائمة التي عادة ما يستخدمها الشعبيون، بغية إثبات الذات والحاجة الماسّة لفرض السيطرة والتحكم، اضافة الى طمأنة النفس، كما طمأنة الجماهير وتبرير السقوط السلطوي امامهم، كما لتبرير بسط النفوذ والاستفراد.

آثار حالة الإنكار ونظرية المؤامرة هذه، تترجم عملياً بالرفض القطعي لتصديق أي نتائج علمية وعملية.



نشر المفاهيم الخاطئة والاقتناع بها. الابقاء على الحقائق المزيفة، مع ميل قاطع إلى تصديق الأوهام بدل قبول الحقائق، وتقديس الأشخاص، بدل الاعتراف بالحقيقة المكشوفة حول هؤلاء وعجزهم أو فشلهم... أو الأسوأ فسادهم «المقدس»...

ولتمرير ذلك كله، في الذات وفي الوقائع، يلجأ هؤلاء، الحاكم المعبود ومحكوموه العابدون، إلى تبنّي الفكر الالغائي، إلغاء كل آخر، فكرة أم شخصاً أم مؤسسة أم حتى طيفاً.

صعب جداً واقع هؤلاء، لا بل قد يكون بلغ حد الاستعصاء على حل الشفاء، ولكن بموازاة هذه الحالة، الحقيقة المرة لن يطمسها الانكار ولا الاستنكار ولا اللهاث وراء زعيم أو منفعة تعيين أو صفقة تمويل...

هل من مثال عن كل ما سبق؟ أنظروا إلى أميركا اليوم... تجدوا النموذج الصارخ.

أما في لبنان، ولكي لا نصبح مثل أميركا، ولكي لا نصاب بمرض الإنكار والشعبوية المتسلطة، ولكي لا نسقط في هاوية التاريخ والحاضر والمستقبل، علينا أن نعرف ونعترف ونقبل هذا الواقع:

في الاشهر المقبلة ومع انتهاء سنة 2020، سيبلغ مستوى الفقر 60% بحسب أرقام البنك الدولي. وقد يصل الى 70% بحسب الاحصاءات المحلية.

50% من اللبنانيين سيصبحون تحت خط الفقر، أي انّ مدخولهم اليومي لن يتخطى الأربعة دولارات على سعر الصرف الرسمي، 1500 ليرة. وبالتالي، مِن كل لبنانيين اثنين، سيكون واحد غير قادر على تأمين حاجاته الاساسية للبقاء حياً.

أمّا البطالة فستتخطى نسبتها 40 %، بحسب البنك الدولي. وبحسب الارقام المحلية قد تصل الى 65 %. أي ما يقارب مليون عاطل عن العمل مع نهاية هذه السنة. الدخل الفردي لكل لبناني انخفض نحو 47% مع ما رافقه من تدنّي القدرة الشرائية بنحو 53% بسبب تضخم الاسعار وانهيار مستوى النقد الوطني.

هذه الارقام المأساوية لم تأت من عدم. إنها حقائق، لا بل هي الحقيقة كاملة. ولا شيء سوى الحقيقة. لا يغيّرها إنكار. ولا يبدّلها إيمان بنصف إله، ولا يعدّلها وَهم بمؤامرات كونية.

يستطيع الكذب والكذابون ان يدوروا حول العالم، بانتظار ان تنتعل الحقيقة حذاءها.

أحذية الزعماء قد تكون ذات نعل ذهبي، لكنها غالباً ما تدوس أصحاب الحق، أما حذاء الحقيقة فهو من أقدام عارية، لبطون جائعة، لا بد أن تخبط الأرض، لتحفر ركلتها على وجه كل مُنافق وسارق...


الجمهورية