نادر فوز - "معركة" وسط بيروت: يا ويلكم من ثأر الفقراء

  • شارك هذا الخبر
Sunday, January 19, 2020

بدأت الموجة الثانية من ثورة 17 تشرين، فتجلّت بمواجهة قمع القوى الأمنية بقمع مضاد. وتحوّلت بفعلها ساحة وسط البلد في بيروت إلى ساحة ثورة، بعد أنّ كانت مقرّاً للاجتماعات والندوات والمهرجانات.

قمع السلطة، من خلال أجهزتها الأمنية، انطلق قبل أيام في شوارع الحمرا ومار الياس والمزرعة. واستكمل السبت بالبطش العشوائي والهجمي. سقط بنتيجته أكثر من 300 إصابة واعتقال ما يقارب 40 ناشطاً وناشطة. القمع، واقع أرادت السلطة تكريسه للجم كل من لا يزال مؤمن بأنّ التغيير آت. وتهدف من خلاله إيصال رسالة بأن وقت التفلّت من عباءات أحزابها وطوائفها قد نفذ، ولا مكان لـ"الفلتان" على أبواب حكومة عتيدة. فالثورة "فلتان" أمام انضباط فرقاء السلطة في المحاصصة على مدى عقود، والثورة "فوضى" أمام تنظيم سياسة النهب والفساد. والفلتان والفوضى من مهام قوى السلطة فقط، ومعجمها يفيض بعبارات التخوين. وهو ما فعله في الأصل كل زعيم تحدث عن الثورة في الأيام الماضية. وبأدوات القمع أيضاً.

السلطة والابتزاز
عدا الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والرصاص المطاطي. أطلقت القوى الأمنية ليل السبت والرصاص الحيّ بشكل خردق و"غلل" من ميليمترات معدودة. أصابت سمومها كل من صودف مشاركته أو عدم مشاركته في مواجهة العناصر، لأنّ مواجهة القمع والقامع ممنوع بطبيعة الحال. كما دوّنت القوى الأمنية في سجلّ مخالفاتها أيضاً اعتقال متظاهرين جرحى من مستشفيات بيروت. وكرّرت مشاهد توقيف المشاة في الشوارع المحاذية لساحة الاشتباك، فكانت عناصر أمنية تستقوي على المتظاهرين العزّل وتستفرد بهم في شوارع الجميزة والأشرفية، في توقيفات أشبه بعلميات خطف. فهذه السلطة تسعى وراء ابتزاز الناس، ولا تعرف أساساً إلا لغتين، الابتزاز أو الحرب. وفي أحيان كثيرة، الابتزاز بالحرب. ابتزتنا قوى السلطة على مدى عقود، بالأمن والاقتصاد، والجغرافيا حتى. وإذ بها تبتز المتظاهرين اليوم بسجلّاتهم الجنائية، إذ تلوّح بورقة اتهام كل من يلقى القبض عليه بالشروع بمحاول قتل عناصر الأمن. وهذا ما قاله أساساً المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، في مؤتمر الصحافي. وهذا أيضاً ما سيظهر بغضون أيام في ملفات قضائية بحق المتظاهرين في لبنان. هذا ابتزاز من نوع جديد، فقوى هذه السلطة حريصة على تطوير قدراتها وأساليب تحكّمها بالناس.

ثأر فقراء المناطق
نزل مئات الشبان اللبنانيين، من طرابلس وعكار والبقاع والإقليم وغيرها، إلى بيروت السبت للتنفيس عن غضبهم. فجاء المشهد كما لا تشتهيه السلطة التي عبّرت سريعاً عن أسباب قمعها الاستباقي: إحراق خيم الاعتصام. لأنّ المطلوب تنظيف كل هذه "الجلبة" قبل وصول الحكومة الجديدة. فدسّت السلطة عناصرها الأمنية لتحطيم الخيم وإضرام النار فيها. ولم تتمكن هذه العناصر سوى من النيل من هذه الخيم، وكأنها "فشّة خلق" لا أكثر. كان هدف السلطة من خلال عمليات البطش المتصاعدة إسقاط عزيمة اللبنانيين على التغيير.. وفشلت. وكذلك كان مصير عملها على إخافتهم وترهيبهم. وما أن صمدت ساحات بيروت وثوارها بوجه موجات القمع، جاءهم الدعم من أهالي المناطق. وهؤلاء لهم حسابات خاصة مع السلطة ومن فيها. هؤلاء الجيل الرابع من جمهورية تهميش الأطراف وعزلها ومنع الإنماء عنها وإغراقها في الفقر والجوع والبطالة والتعليم المحدود. لهؤلاء ثأر ورثوه، أباً عن جد، مع سلطات متعاقبة همّشت مجتمعاتهم منذ مئة عام. لم يروا من "الحكومة" إلا كل سوء.

أبناء المناطق الذين تظاهروا في بيروت إلى جانب ناشطينها و"جدعانها"، شعروا للمرة الأولى ربما أنّ في هذه العاصمة من وما يشبههم. هم ليسوا "مرتزقة" ولا "عابثين" ولا "مندسين" كما وصفهم رئيس الحكومة المقال سعد الحريري. هؤلاء قسم من الجمهور وُعد في زمن الانتخابات بـ900 ألف وظيفة وقبلها بعبور إلى الدولة وقيام المؤسسات. وُعدوا منذ عقود بـ"إنماء متوازن" بعد حرب أهلية وتحريرَين شبه منجزين (2000 و2005). ولم يجدوا إلا زعماء يراكمون ثرواتهم على حساب فقرهم وحرمانهم. فثاروا وثورتهم مبرّرة، لا بل مطلوبة طالما أنها لا تحيّد زعيماً ولا أزعر.

فقراء العاصمة
منذ ثلاثة أشهر، ولا تزال مشاركة فقراء العاصمة محدودة. في الأيام الأولى أتوا من أحزمة البؤس في ضاحيتي بيروت الشرقية والغربية. ثم غيّبوا لأسابيع، تحت عناوين طائفية وعقائدية. لكن حركتهم عادت، في بيروت وفي تلك الأحياء التي تشبه العشوائيات ولو أنها مكبوتة وبعيدةً عن الإعلام. يئنّون وحيدين وبصمت. كسر ظهرهم الفقر وتغطّى بخطاب طائفي، فصمتوا. فقراء العاصمة لم يتحرّكوا بعد، لكن هؤلاء إذا نووا "الخير" للثورة، الحسم لهم.


المدن