صلاح تيزاني: أتمنّى على أهل الفن أن يحفظوا المعروف

  • شارك هذا الخبر
Saturday, January 18, 2020

من منزل الممثل صلاح تيزاني في منطقة بيروت بالقرب من الجامعة العربية، عدنا معه بالذاكرة الى ألف البداية، مروراً بأحرف أبجدية حياته، ولم نصل الى الياء، لأنّ مسيرة أبو سليم الفنية ما زالت قائمة.

دخل قفص الفن الذهبي في عمر مبكر، بقي، وما زال... حتى بعد ان ناهز التسعين. ومن داخل مقرّه الدائم، أطلق أجمل تغريدات المونولوجيا، فأفرح المشاهدين ومن حوله و«شال» الهم عن قلب المواطن اللبناني.



من الفرقة الكشفية «النفير» الى فرقة كوميديا ومنولوج، الى ممثل على خشبة المسرح والسينما.



من شاب موهوب، طموح، ولكن «نَحس على العيلة» كما كان يقال له، الى شاب «رافع راس العيلة» كما صار يقال له لاحقاً...



من مدينة طرابلس الى تلة الخياط، انطلقت الفرقة على متن بوسطة الخط (طرابلس بيروت، بيروت طرابلس)، ترافقها تمنيات الأهل بالتوفيق على طريقة «تروحوا وترجعوا بالسلامة».



لم تأخذ سنوات العمل الفني من طاقته الجسدية والفكرية، بل أعطته كنزاً من المعرفة والإنسانية، والحب والعطاء. جلسنا لساعتين من الوقت معه ومع زوجته سهام، وتحدثنا عن مسيرته الفنية تارة والعائلية تارة أخرى. الملفت انه لم يصعب عليه أبداً تذكّر اسماء الأشخاص الذين عمل معهم منذ كان عمره ١٧ سنة.



إبن الـ٩٢ حافظ الذاكرة والمعروف، تمنى في بداية المقابلة من المعنيين ان يتذكروا ما قدّمه ابو سليم ليحفظوا بدورهم المعروف.



من مهنة النجارة الى فرقة «النفير»

«أحببتُ فن التمثيل منذ صغري وبدأت أكتب المونولوج في عمر الـ١٧، أسست فرقة كشفية وأطلقت عليها اسم «النفير»، وكان أعضاؤها رفاق الحي: أمين، فهمان، جميل، وكوستيكا ومن بعدهم أسعد».

«كانت مهنتي النجارة، وكنت أملك منشرة، دعوتُ الفرقة للعمل معي، فأصبح مكان العمل للبروفات. كنت المشرف على ادارة المنشرة وتقسيم الأدوار في الوقت نفسه.

لم نكن نعرف شيئاً عن المسرح الكوميدي، ما وصلنا من هذا الفن في الأربعينات هو السينما الصامتة وأفلام الممثل الكوميدي العالمي شارلي شابلن...».



معارضة الوالد

أول معارضة لمسيرته في عالم التمثيل كانت من والده الذي لم يتقبل فكرة انّ ولده سيكون ممثلاً، ويقول أبو سليم: «كان ينعتني بنحس العيلة والعار عليها، حتى انه في اكثر الأحيان كان يُبقيني خارج المنزل ليلاً بعد عودتي من المسرح. كان متحجّراً جدّاً، حاول بالقوة إجباري على دخول المدرسة الحربية لأكون ضابطاً في العسكر العثماني مثله، لكنه لم يفلح. ويَا ليته ما زال على قيد الحياة ليرى انّ التحجّر لا يؤدي الى نتيجة بنّاءة، بعكس أمي التي كانت تشعر برغبتي وتتماشى معها، وتبكي «عالسكَّيت» عندما لا يفتح ابي لي الباب كقصاص لعدم إطاعتي رغبته».

وردّاً على هذه المعاملة من قبل الأب وكلّ من نَعت الفن بأنه عار وبأنّ التمثيل «شَغلة اللي ما إلو شَغلة» قال صلاح تيزاني:

«عم بِتعجّب ليش الناس عم تهرب منّي

الحبايب مع القرايب ابتعدوا عنّي

لَنِّي مجرم ولا سرّاق واذا مش مكروه

عرفت السبب تاري زنبي بْمَثِّل وبغنّي

رِحنا لنخطب متل الناس وِحدي بِنت حلال

إن كانت حلوي ولّا بشعة قلنا ماشي الحال

لقيت نفسي شب كويّس وشكلي مش بَطّال

رحنا برمنا قمنا لقينا بنت حلوي وعال

وراحو اهلها حسب العادي يسألوا عني

وقالوا هيدا اللي ناقصنا بعيلتنا مْغَنِّي...».



فن المونولوج وموضة الجنفَيص

يُكمل الممثل تيزاني قصته عن البدايات في مسقط رأسه، مستذكراً الحفلات الفنية التي كانت تستقبل كبار أهل الفن أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب وكارم محمود، والتي كانت تتطلّب «مونولوجست» يُتقن فن الفكاهة والانتقاد المضحك. إنضَمّ ابو سليم الى مجموعة من الذين يتقنون هذا الفن في تلك الحقبة، بينهم عبدالله المدرّس، يوسف حسني، رامز ابي ضهر وغيرهم، وشاركهم في إطلالاتهم على المسرح.

إلى المونولوج أضاف ابو سليم التمثيل ليصبح بعدها فنّه النقدي في قالب تمثيل مونولوجي، مُستعيناً بمواضيع حياتية يبرزها للمشاهد:

«عندما درجت موضة قماش الجنفيص، إستعنتُ بفرقة النفير، كلهم رجال، ارتدوا أكياس الجنفيص، والبعض منهم وضعوا شعراً مستعاراً مع ديكور على المسرح، وغَنّيت:

مش عَم نتعب بـ جَمع المال

وعَ الحَياة والله منِحتال

بيصرفوا تعبنا للكوافور

وع الزينة وموديل الشوال

موضة جديدة للستّات لَحِّق دفع مصريّات

ونحنا بعصر التجديد وعصر الذرّة والشوالات...».

«المسافر» أول عمل كوميدي



وَكرّت السبحة

زاد رصيد صلاح تيزاني في الوسط الشعبي وتخطّى حدود المعجبين مدينة طرابلس الى المناطق المجاورة، وبعدها الى بيروت مع انطلاقة تلفزيون لبنان: «أخبرني أصدقائي من بيروت عن إطلاق تلفزيون لبنان في تلة الخياط، وتمنّوا عليّ أن أنقل ما نقوم به الى الشاشة، ليتسنّى لعدد كبير من اللبنانيين مشاهدتنا. وهذا ما قمنا به، قابلنا رشاد البيبي وطلب منّا نص العمل، وتفاجأ بأننا نعمل من دون نص، إستعنتُ بعوني المصري وكتبنا النص وطبعناه وقدّمناه إلى التلفزيون. لم يجدوه نصّاً كوميدياً، فأجبتهم انّ الكوميديا لا تعتمد على الكتابة، بل على خبرة الممثل وانسجامه وخبرته في التمثيل».

ولكي يثبت ابو سليم صحة ما يقوله، قدّم اول عمل كوميدي للتلفزيون اسمه «المسافر»: شاب قرر السفر، وعَلم أهل الضيعة بالخبر، وخاصة من له اقرباء وأبناء في بلاد الاغتراب، فامتلأ منزل والديه بالأمانات، كجرار الشنكليش، وشوالات الطحين، وجميع أنواع المونة... حاول ان يفهم أهل بلدته بأنه مسافر على متن طائرة وليس على متن بابور، ولكن من دون جدوى... وهكذا نقل ابو سليم وفرقته واقع الحياة اليومية في الستينات بطريقة كوميدية.



«أبوسليم وفرقته»

بسبب بُعد المسافات بين طرابلس وبيروت، قرر ابو سليم ان ينقل سَكنه مع الفرقة الى منطقة بيروت بجانب مبنى التلفزيون في تلة الخياط، لتسهيل التنقّل من طرابلس الى بيروت الذي كان مُنهِكاً للفرقة جسدياً ومعنوياً: «الرحلة الى بيروت بالبوسطة كانت تشبه رحلة السفر. فالأهل يتمنّون لنا مع كل نزلة الى التلفزيون ان نصل ونعود بالسلامة. ساعات طويلة كنّا نقضيها على الطريق، وكنّا نصل إلى التلفزيون دايخين...».

بعد سنتين من العمل الكوميدي في تلفزيون لبنان، تمنّت المحطة على الفرقة أن تغيّر اسمها لأنّ «فرقة كوميديا لبنان تُقدّم» يُعتبر إسماً كبيراً بالنسبة الى فرقة مبتدئة: «آنذاك، كانت الأسماء التي يسبقها كلمة أبو تعتبر على الموضة، مثل: ابو ملحم، ابو حرب، ابو بسام على الإذاعة اللبنانية، فاخترتُ اسم ابو سليم وفرقته لأنه يتماشى مع كل الطوائف، واخترتُ ايضاً أسماء لأعضاء الفرقة لا تسبّب ثورة في البلد مثل اسعد، جميل، وفهمان...».



وطلّت سهام

سألنا ابو آمن، ما اذا كان اختياره لأسماء اولاده الثلاثة يتماشى ايضاً مع كل الطوائف، فكان جوابه: «بالتأكيد». وأخذنا الحديث الى أبنائه آمن وسامر واختصاصهم ومراكزهم وأحفاده، والى ابنته آشا المحامية الناجحة بالإضافة الى زوجته سهى رفيقة دربه وسَنده: «تعرّفتُ الى سهى في بيروت، وتزوّجنا وما زلنا سوياً على الحلوة والمرّة.» ولسهام أيضاً أغنية لاقَت، ولا تزال، تجاوباً شعبياً كبيراً:

«شِفتا عَ البلكونا ضربتلّا سلام

سَحرتني بعيونا وحبّيتا أوام

وقلتلّا شي نهار، بَدنا نروح مشوار

واذا بتبخَعيني بفضِّل الانتحار

ضِحكت وصَدّقتا وعالموعَد سبَقتا

وما طَلّت سهام، وما طلّت سهام».

والسيدة سهام تيزاني ليست بعيدة عن الفن، مارست مهنة الصحافة في بداية حياتها وبعدها انتقلت الى فن الرسم، فشاركت بمعارض كثيرة وحوَّلت منزلهما الى لوحة فنية ومحترف يضمّ رسومات لأغلى الناس على قلبها: زوجها وأولادها.



مهرجانات الأرز الدولية حفظت حقه

إنجازاته كثيرة وأعماله تَخطّت بعددها سنوات عمره بأضعاف وأضعاف، وتكريمه المعنوي وصل الى أعلى هرم المجتمع والدولة والوطن ودنيا الاغتراب اللبناني والشرق أوسطي. هذا التكريم كان بالنسبة إليه تعويضاً عن التقصير المادي من الشركات الإعلامية والإعلانية. وفي مقارنة بسيطة بين الأمس واليوم، يقول: «أجر بعض الفنانين في عمل تلفزيوني واحد يعادل ما جَنيته في حياتي الفنية كلها...!».

يُثني على مبادرة النائب ستريدا جعجع بدعوته الى مهرجانات الأرز الدولية لسنة ٢٠١٩، من خلال مشاركته في إحياء ليلة Smile Lebanon مع فنّانين كوميديين لبنانيين، فيقول: «النائب جعجع عاملتني بكل احترام مع الحفاظ على كامل حقوقي المادية والمعنوية، وأتمنى أن تكون أمثولة للآخرين في كيفية التعاطي مع الفنان».

إرثه الفني من كتابات وافلام وبرامج، وديعة تحتفظ بها جامعة الروح القدس-الكسليك، قدّمه إليها بعد طلب من القيّمين على المتحف الفني التابع للجامعة. هذا المتحف لم يبصر النور بعد بانتظار الانتهاء من إعداد الدراسات، ليصبح بعدها مادة مهمّة وتحفة فنية تعود لحقبة ذهبية من تاريخ الفن اللبناني: «عندما تواصلوا معي من قبل الجامعة، لم أتردد في التعاون معهم، فوضعتُ أرشيفي في تصرفهم. فرحتُ كثيراً عندما زرت المتحف، ووجدت انّ ما يقومون به ينافس أهم متاحف العالم من حيث التقنية المتطورة في الحفاظ على محفوظاته وعرضها بطريقة تليق بتاريخها وقيمتها». ويضيف ممازحاً: «على أمل ان يفتتح هذا المتحف وأنا ما أزال على قيد الحياة...».

الحسرة بسبب التلكؤ في تقدير الفنان بَدت واضحة على صلاح تيزاني، وبخاصة حين يذكر قرار إقفال تلفزيون لبنان في التسعينات وعدم إنصافه وفرقته، اذ إنهم لم يحصلوا على تعويض باعتبارهم «مُياومين»...

وفي هذا الإطار يسأل: «بعد ٢٢٠٠حلقة تلفزيونية و٩٠٠ حلقة إذاعية و١٧ مسرحية و٤ أفلام (أبو سليم في المدينة، وأبو سليم ورسول الغرام، وأبو سليم في افريقيا)، ومع الرحابنة سفر برلك وبنت الحارس... كل هذه الأعمال من دون حقوق للفنان...؟!»

هذا السؤال الكبير من ابو سليم، أب الفن الكوميدي وعرّابه، نَضعه بين أيدي القيّمين على الفنّ في لبنان. فمتى نسمع الجواب...؟

ماغي مخلوف- الجمهورية


الجمهورية