بين إنتفاضة 17 تشرين الأوَّل و مئويَّة لبنان الكبير - بقلم المحامي باسل عصام أبوزكي
شارك هذا الخبر
Saturday, December 7, 2019
منذ ما يقارب المئة عام، في الأوَّل من أيلول 1920، أعلن المفوَّض السَّامي الفرنسي الجنرال غورو عن قيام دولة لبنان الكبير. وقدْ أطلق رئيس الجمهوريَّة العماد ميشال عون في 31 آب الذِّكرى المئويَّة وبدء التَّحضيرات لعامٍ من الإحتفالات بهذه المناسبة إبتداءً من الأوَّل من كانون الثَّاني 2020. وبالرُّغم من رمزيَّة المناسبة، فقدْ بدأ مع قيام دولة لبنان الكبير وإستقلاله فيما بعد في 22 تشرين الثَّاني 1943 صراعٌ على هويَّته العربيَّة، ما لبث أن تحوَّل بعدها تدريجيّاً إلى نزاعٍ طائفي أدخل اللُّبنانيِّين عام 1975 في الحرب الأهليَّة. وقدْ تمكَّنت وثيقة الوفاق الوطني (إتِّفاق الطَّائف) عام 1989 من وقف الإقتتال، لكنَّها أرسىت، في المقابل، نظاماً سياسيّاَ كرَّس المحاصصة الطَّائفيَّة. ومع أنَّ إتِّفاق الطَّائف شكَّل نموذجاً خاصّاً في المشاركة وممارسة الدِّيمقراطيّة التَّوافقيَّة، ونصَّ صراحةً على أنَّ إلغاء الطَّائفيَّة السِّياسيَّة هو هدف وطني ينبغي العمل على تحقيقه، إلَّا أنَّ الصِّراع على النُّفوذ السِّياسي وإقتسام السُّلطة رسَّخ بدوره منظومة المحاصصة الطَّائفيَّة (ومعها سياسات التَّوظيف في إدارات الدَّولة) وتسبَّب في تردِّي الحياة السِّياسيَّة وتفشِّي الفساد الإداري وهدر المال العام. وقدْ فشلت الطَّبقة السِّياسيَّة التي توالت على السُّلطة منذ إتِّفاق الطَّائف في إدارة إقتصاد عادل ومنتج وتأمين أدنى حقوق المواطن الذي تحوَّل من صاحب حق يكفله له الدُّستور والقانون إلى رهينة الطَّائفيَّة السِّياسيَّة. وقدْ أسَّست ممارسات المحاصصة الطَّائفيَّة على مدى ثلاث عقود من الزَّمن لتدهور حال البلاد الإقتصاديَّة والمعيشيَّة ولإنتفاضة شعبيَّة عابرة للطوائف توحَّد فيها معظم اللُّبنانيِّين في السَّابع عشر من تشرين الأوَّل من مختلف الطَّبقات الإجتماعيَّة للمطالبة بإسقاط الطَّبقة السِّياسيَّة الحاكمة، وذلك من خلال تشكيل حكومة إختصاصيِّين (من خارج منظومة المحاصصة) تحظى بثقة النَّاس وتحضِّر لإنتخابات مبكرة على أساس قانون إنتخابي خارج القيد الطَّائفي يفرز طبقة سياسيَّة جديدة تحقِّق آمال اللُّبنانيِّين.
لقدْ أدخلت إنتفاضة 17 تشرين الأوَّل نظام المحاصصة الطَّائفيَّة في أزمة فعليَّة وأظهرت مدى الحرمان الذي يعيشه اللُّبنانيُّون الذين إنتفضوا بعد أن إنعدمت ثقتهم بالطَّبقة السِّياسيَّة الحاكمة، ويأسهم بالتَّالي من إمكانيَّة الخروج من الأزمة المعيشية الخانقة. وهي - أي إنتفاضة 17 تشرين الأوَّل - تلتقي اليوم مع مشروع المعلِّم الشَّهيد كمال جنبلاط قبل أكثر من أربعين عاماً، وهو البرنامج المرحلي للإصلاح السِّياسي الذي وضعه الحزب التَّقدُّمي الإشتراكي مع الحركة الوطنيَّة عام 1975 والذي يقود الى إلغاء الطَّائفيَّة السِّياسيَّة وإقامة دولة مدنيَّة تحافظ على كافَّة مكوِّنات الوطن وتحقِّق العدالة الإجتماعيَّة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين. فالطَّائفيَّة السِّياسيَّة منافية، من حيث المبدأ، لمفهوم الدِّيمقراطية بالمعنى الصَّحيح. وقدْ كتب كمال جنبلاط عام 1952 في مقال بعنوان "الدِّين والدَّولة" أنَّه لا يجوز ضمن الوطن الواحد ألّا يكون جميع المواطنين متساوين بالحقوق المدنيَّة والسِّياسية أمام الدَّولة، وإلَّا تصبح الطَّائفة دولة ضمن الدَّولة. في السَّادس من كانون الأوَّل تعود ذكرى ميلاد المعلِّم الشَّهيد كمال جنبلاط. وكما في كل عام، في ذكرى ميلاده، نستذكر تلك القامة الوطنيَّة و التَّقدميَّة الكبيرة التي ناضلت من أجل الدِّيمقراطيَّة والعدالة الإجتماعيَّة. هو تاريخ ولادة فكر متنوِّر و نهج في الِّنضال الوطني والإنساني. وبين إنتفاضة 17 تشرين الأوَّل و مئويَّة لبنان الكبير - في السَّادس من كانون الأوَّل من هذا العام - يقف اللُّبنانيُّون، كما قبل مئة سنة، أمام مرحلة تأسيس جديدة، وهم مدعوُّون اليوم للإرتقاء بالمجتمع من الإنتماء الطَّائفي الى الإنتماء الوطني وللعبور بالوطن من نظامٍ طائفي لم يعد قادراً على تجديد نفسه إلى بلورة هويَّة وطنيَّة موحَّدة وبناء الدَّولة المدنيَّة التي نادى بها كمال جنبلاط للوصول الى لبنان لكل اللُّبنانيِّين.