دخل الحراك الشعبي المرحلة الثانية بعد انقضاء مهلة الاثنتي وسبعين ساعة التي أعطاها رئيس الحكومة سعد الحريري لتقديم ورقة اصلاحية. فالحريري طَرَحَ، والشارع رَفَضَ. فما كاد رئيس السلطة التنفيذية ينهي كلمته حتى بدأت الحشود تتوافد الى ساحات الاعتصامات رافضةً الوعود التي جاءت بها الورقة وبالتالي الاعلان عن الاستمرار بالاحتجاجات.
هنا بدأ الأمر يتبلور سياسياً بعيداً عن الاقتصاد والشقّ التقني الذي تحاول أن تعالجه السلطة. فهناك اجماع عند المتظاهرين بالانتقال الى مرحلة جديدة ونوع من الاصرار على القطع مع الماضي، أي القطع مع مرحلة ما بعد الحرب الأهلية وانهاء تحالف بورجوازية الحرب مع الأوليغارشية السياسية التي حكمت منذ بداية التسعينات لغاية اليوم.
فالشارع أظهر ان هناك جيلاً لبنانياً تخطّى اتفاق الطائف، تخطّى مرحلة 2005، تخطى 8 و14 آذار وتخطّى العهد. وهذا الجيل يطالب بدولة مؤسسات وقانون ويطالب بالمساءلة والمحاسبة، وهذا يدلّ على ان الأطراف التي اعتادت على ان تكون فوق القوانين أصبحت في مواجهة مع أكثر من نصف اللبنانيين الذين يريدون أن يكون من يحكم دولتهم تحت سقف القانون.
بعد اعلان الحريري قال الشارع كلمته، وهو مستمرّ بشلّ البلد والضغط على الحكومة حتى استقالتها. وان انقضاء كل يوم يزيد من رصيد المتظاهرين ويحرج موقف السلطة التي ستتحمل وزر ما وصلت اليه الحال من الشّلل ومن التعطيل الكامل للدورة الاقتصادية التي لا تقوى على الصمود طويلاً لأنها مهترئة أصلاً.
ولكن السؤال الأبرز يبقى اذا كان الشارع يمتلك القدرة على الصمود في مواجهة نظام يمتلك كل أدوات الاستمرار وأدوات التغلّب على المتظاهرين وعلى مطالب الشعب، بدءاً من سلطة الطوائف التي وان تمكّن المحتجون من الخروج من تحت عباءتها ظرفياً، الّا ان تاريخ لبنان الحديث والقديم يظهر بأنها تمتلك السلاح الأمضى في فكّ ارتباط اللبنانيين ببعضهم. وقد يكون مشهد نهاية اليوم الطويل في بيروت أحد هذه الأدوات.
فتجوّل دراجات نارية تحمل اعلاماً حزبية في بيروت باتجاه ساحتي الشهداء ورياض الصلح عدّل قليلاً من المشهد الذي يدخل يومه السادس. هذه الحركة وان بقيت محصورة ضمن بعض الفتية المشاغبين الذين تصدّى لهم الجيش وتبرأت منهم قيادتا حزب الله وحركة أمل، الّا انها يمكن أن تكون بمثابة استطلاع وجسّ نبض لسيناريوهات قادمة ربما لاحراج الجيش ودفعه لفكّ الاعتصامات منعاً لأيّ احتكاكات مع المتظاهرين قد يؤدي الى أحداث أمنية في الشارع، وربما قد يستطيع الجيش حصرها في الزمان والمكان.
وفي كلّ الأحوال فاننا أمام مشهد غير مسبوق في لبنان، فالسلطة حاولت في الساعات الاخيرة العثور على من تتفاوض معه، أو على جهة تتحدث باسم الحراك او تمثله ولكنها الى الآن لم تجد من يصغي اليها. فالحراك وحتى الآن من دون قيادة موحّدة ويسير بحسب هوى الشارع الذي انفجر في لحظة يأسٍ وغضب وانعدام ثقة وما زال.