عون يُفْشي سرّه...

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, November 24, 2021

الأدهى والأشدّ خطراً على الكيان وهويته وديمومته هو الشكوك المبكّرة التي تطال إستحقاقاتِ تَداوُل السلطة كآلياتِ تغييرٍ من شأنها قلب «الصفحة السوداء» في الوطن المخطوف وبدء الدرب نحو إنقاذٍ موجع، وخصوصاً أن كلاماً بـ «مكبّرات الصوت» بدأ يتردد عن خطر الإطاحة بالإنتخابات النيابية في ربيع 2022، وكذلك بالإنتخابات الرئاسية خريف العام نفسه.

فرئيس الجمهورية العماد ميشال عون أبى أن يبدأ السنة الأخيرة من عهده من دون تفجير مفاجأة ملغومة، عبر تلويحه في حديث إلى صحيفة «الأخبار» اللبنانية، بأنه لن يسلّم البلادَ إلى الفراغ، وهو الأمر الذي لم تَمْحُه عبارته في خطاب الإستقلال بأن رسالته هي الأخيرة إلى اللبنانيين. وإذا كانت هذه الجملة صحيحة قانوناً ودستورياً، لكن في السياسة فإن ما سبق أن قاله عون ولمّح إليه يشي بأنه يتجه إلى تكريس معادلة واضحة، وخصوصاً حين رسم صورة خليفته المستقبلية، وهي المعادلة التي تقول: إما الفراغ وإما صهره رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل رئيساً للجمهورية، أو بقاؤه هو – أي عون - في قصر بعبدا.

وبدا عون كأنه يستنسخ ما قاله الموفد الأميركي ريتشارد مورفي حين شارفتْ ولاية الرئيس أمين الجميل على الإنتهاء عام 1988 فخيّر اللبنانيين بين إنتخاب النائب مخايل الضاهر أو الفوضى. رفض المسيحيون إختيار الضاهر فدخلت البلاد في فوضى عارمة إنتهت باتفاق الطائف، ومن ثم حرب إنهاء عصيان عون في قصر بعبدا، وإخراجه منه.

ثلاث مرات كان عون على تماسٍ مع الفراغ الرئاسي. فمع خروج الجميل من بعبدا، سلّم رئيس الحكومة الإنتقالية ميشال عون مقاليد الحكم، تمهيداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وصل قائد الجيش وفق دستور ما قبل الطائف، إلى قصر بعبدا ورفض الخروج منه وتأمين إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. إنتُخب الرئيس رينيه معوض بعد الطائف ورفض عون التسليم بالإنتخاب. إغتيل معوض في عيد الإستقلال (22 نوفمبر 1989)، ورفض عون الخروج. وإنتُخب الرئيس الياس الهراوي، ورفض عون مجدداً التسليم بالإنتخاب، فشنّت سورية حربها (13 اكتوبر 1990)، وخرج عون إلى باريس منفياً.

وكاد عون يكرر الأمر نفسه، بعد خروج الرئيس إميل لحود، في 24 نوفمبر 2007، لكن «إتفاق الدوحة» عطّل عليه الطريق، فجرت تسوية قطرية - مصرية بغطاء أميركي وفرنسي، عام 2008، فإنتُخب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً على مضض من عون الذي قَبِل بالإنتخاب مُكْرَها. فكرر التجربة ذاتها بعد إنتهاء ولاية سليمان عام 2014، إذ تمسك عون بترشحه إلى رئاسة الجمهورية ورفض إنتخاب بديل ولو إستمر الفراغ عامين ونصف عام إلى حين إنتخابه في 31 أكتوبر عام 2016.

يعود عون بعد نحو 33 عاماً ليكرر السيناريو عيْنه بتلويحه برفض الخروج من قصر بعبدا وعدم تسليم الرئاسة إلى الفراغ، إذا لم توجد حكومة أو وُجدت حكومة تصريف أعمال. لكن هذا السيناريو لم يَعُدْ بسيطاً بالحد الذي يتصوّره عون ولو انه بات حديث الساعة في لبنان. فعون عُرْفاً وقانونياً لا يعود رئيساً للجمهورية في 31 أكتوبر 2022، مهما كانت الظروف. وهذا يعني انه لا يعود له الحق دستورياً بالبقاء في منصبه وفي القصر الجمهوري. حتى ان الحرس الجمهوري لا يعود تابعاً له، بل يعود فور إنتهاء ولاية الرئيس إلى قيادة الجيش. وهذا الأمر حصل سابقاً إبان الفراغيْن الرئاسييْن، مع لحود وسليمان.

حجة عون أنه في الاستحقاقات الماضية، كانت هناك حكومة قائمة: بعد الجميّل تسلّم هو الحكومة الإنتقالية، وبعد لحود انتقلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وبعد سليمان تسلّمت حكومة الرئيس تمام سلام، أما هو فيقف أمام إحتمال وجود حكومة تصريف إعمال. وهذا الإحتمال موجود إذا جرت الإنتخابات النيابية وإستقالت حكومة ميقاتي حُكْماً ولم تتمكن القوى السياسية من تشكيل حكومة بديلة في المهلة الفاصلة عن موعد إنتهاء ولايته. علماً أنه مع إنتهاء ولاية لحود، ورغم أن الأخير كان حاسماً بعدم البقاء ولو دقيقة واحدة في قصر بعبدا، نُقل حينها عن السفير جيفري فيلتمان إبلاغه الرئيس المنتهية ولايته ان عقوبات ستُفرض عليه ما لم يخرج من بعبدا، وخصوصاً أن الحجة التي كان يتذرّع بها فريق «8 مارس» الموالي لسورية وإيران ان حكومة السنيورة غير ميثاقية بعدما قدّم الوزراء الشيعة استقالتهم منها.

أما بالنسبة إلى باسيل، فإن عون في تحديده "لن يكون بعد الآن رئيس للجمهورية لا يمثل أحداً، ولا يمثل نفسه حتى، بل إبن قاعدته«، يكون يكرر مقولة»الرئيس القوي" في طائفته التي كرّستْها بكركي عبر إحتضانها لقاء القادة الموارنة الأربعة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. وهو بذلك يفتح الباب أمام ترشيحٍ جدي لباسيل، وهو الذي سبق أن حدد مواصفات خليفته صراحة عندما أعلن إبان مشاورات تشكيل الحكومة بعد إنتخابه مباشرةً أنه يُعِدّ خليفته، في إشارة ضمنية إلى باسيل. وهذا الكلام الذي قيل في بداية العهد يعود ليتكرر في السنة الأخيرة، لكن مع رسم إطار جديد، يكمن في معادلة الفوضى أو إنتخاب باسيل. واذا كانت ظروف المنطقة مختلفة هذه المرة مع تراجع تأثير الدور السوري لمصلحة الدور الإيراني في إنتخابات رئاسة الجمهورية، إلا ان ما بدأ يظهر من مواقف عربية تضاف إليها العقوبات الأميركية على باسيل والموقف الفرنسي منه والذي يختلف عن الموقف من عون، نظراً إلى العلاقة التاريخية بينه وبين فرنسا التي لجأ إليها، كلها عوامل لا تسهل الطريق أمام خطوة عون التي ستجد لها معارضة لا يُستهان بها في الشارع. وخصوصاً ان مجرد التلويح بإحتمال بقائه في قصر بعبدا، قوبل برد فعل شعبي رافض. وهذا الأمر مرشح لأن يتصاعد، لكن الجميع يتريث في إنتظار إمرار إستحقاق الإنتخابات النيابية.

ثمة مَن لم يأخذ «تلويح» عون بـ «إما باسيل أو هو» في القصر، على محمل الجد. وخصومه الذين لم يذهبوا إلى حد المطالبة بإستقالته بعد إقتياده البلاد إلى أزمة شاملة لم تعرفها من قبل، وعزلةٍ قاسية عن المجتمعيْن العربي والدولي عبر تحالفه مع «حزب الله»، وذلك انصياعاً لرغبة بكركي بعدم إسقاط الرئيس الماروني في الشارع، يقللون من وطأة التهديد المبكر الذي رماه عون بوجه الجميع. ولسان حال خصوم عون أن الكنيسة ورأسها والجيش بمسؤولياته كفيلان بسحب الغطاء عن أي ظاهرة غير دستورية وكبْحها.

وفي تقدير أوساط واسعة الإطلاع أن فشل التجربة العونية في الحُكْم وإنفضاض السواد الأعظم من المسيحيين من حول عون وتياره، والعين الدولية التي لن تسمح بإطلاق رصاصة الرحمة على لبنان المتهالك أساساً... كلها عناصر لن تجعل سيناريو عون للإحتفاظ بالسلطة والقصر له أو لخليفته نزهة... فـ «موديل الـ 1988» لم يَعُدْ يصلح للـ 2022.


الراي الكويتية