طوني مخايل - الصراع الحقيقي

  • شارك هذا الخبر
Monday, October 14, 2019



لطالما سعى الانسان منذ فجر التاريخ بكل ما امتَلك من قوة فكرية وجسدية، بداً من استغلال الأرض التي يعيش عليها ،الى قتل الحيوان، وصولاً الى التعدي على الانسان الآخر وحتى الى قتله لتأمين حاجياته المادية(طعام،منامة،ملبس...).
بمرور الزمن تطور الفكر السياسي الاجتماعي للبشر وخلقوا ما يُسمى بالدولة واقاموا معها عٓقدا" اجتماعيا" أساسه حماية الانسان،حريته الفردية،ممتلكاته الشخصية وتأمين حاجاته المادية لقاء بدل او عمل يُقدمه لهذه الدولة.
خاض الانسان اللبناني تجارب هذه التطورات الاجتماعية وتدرُجاتها كمثيله من البشر منذ تواجده على هذه الأرض وسلَّم امره كغيره الى الدولة لتنفيذ هذا العٓقد.
سعت الدولة اللبنانية الحديثة بكامل مؤسساتها، دون ان ننسى فعالية القطاع الخاص اللبناني الى رعاية مواطنيها وقد نجحت بذلك الى حد بعيد، فقياساً على سُلم الطبقات الاجتماعية كان لبنان يُعتبر في الدرجات العليا منه حتى العام ١٩٧٥.
انتهت الحرب اللبنانية العسكرية فقط عام ١٩٩٠بعدما دامت ١٥ سنة، تزعزع خِلالها هذا العٓقد الاجتماعي بدرجة كبيرة وفي بعض الفترات اُلغيت جميع بنوده واختفت معالم الدولة، مما استدعى من الطبقة التي استولت على السلطة ما بعد الحرب العمل على إعادة النظر بهذا العٓقد لتحديد مصيره، وهنا بدأت المأساة اللبنانية والتي لم تنتهي لغاية الآن.
توزعت هذه الطبقة السياسية على ثلاث اطراف*:
- الطرف الاول: يريد فسخ هذا العقد وإبقاء وظيفة الدولة مُقتصرة على الدفاع ،الخارجية والامن الداخلي، وخصخصة** باقي المؤسسات المنتجة(كهرباء،ماء،اتصالات...).
- الطرف الثاني: يريد الإبقاء على هذا العقد، ليس حُباً بالدولة وحرصاً عليها وعلى رعايتها للمواطن اللبناني، بل للاستفادة الخاصة من خيراتها.
- الطرف الثالث: يريد ايضاً الإبقاء على هذا العقد ولكن بخلاف الطرف الثاني، فرغبته بهذا العقد نابعة من تعلقه بالدولة ودورها الحقيقي والتعامل معها على مبدأ الحقوق والواجبات.
بدأ صراع هذه الاطراف ما بعد ١٩٩٠*** وما يزال حتى يومنا هذا، وغاية كل طرف تنفيذ هذا العقد على طريقته ولمصلحته، وقد بيّن هذا الصراع مدى قوة الطرفين الاولين وضعف الطرف الثالث، ونتيجة لاختلال موازين القوى، تركز الصراع الحقيقي بين الطرفين الاولين واقْتصرت أفعال الطرف الثالث في حدها الأدنى على اللامبالاة، لترتفع الى التذمر الكلامي وتصل في حدها الأقصى الى تظاهرة مطلبية دون نتائج.
بدأت الحرب بين اتباع الخصخصة لشراء مؤسسات الدولة واتباع الدولة لرفض البيع كي يستمروا فقط بالتنعُم بخيرات هذه المؤسسات،وخيضَت المعارك تحت أوجه عديدة منها السياسي،الطائفي،الاقتصادي،واحياناً العسكري الخفيف(light)، واُعطيت لهذه الاوجُه تسميات مختلفة(لبنان اولاً،الحفاظ على السيادة،الشراكة في الحكم،الحفاظ على حقوق الطائفة،النمو الاقتصادي...).
ليس مستغرباً إن هذه التسميات المتعددة، كانت تُطلق من قبل الطرفين المتخاصمين على السواء،اما غايتها وهدفها فهو واحد،السيطرة على مقدرات الدولة والاستفادة من خيراتها لصالح الزعيم والاتباع وليس لبناء دولة ورعاية مواطن.
لذلك ونتيجة لهذا الصراع المُقنع يُمكننا التنبؤ بمسار احداث مُستقبلنا:
- صراعات مُستمرة بوجوه وعناوين جديدة والهدف واحد.
- المزيد من الاهتراء للدولة وخدماتها.
- استمرار التسلل للخصخصة الفاسدة داخل المؤسسات الرسمية للسيطرة عليها كلياً.
- تكرار ردات الفعل العقيمة للطرف الثالث.
في النهاية،ولكي يبقى هنالك من بارقة امل للخلاص من هذه الدوامة،ومن بصيص نور في هذا النفق المظلم، فالحل الوحيد هو بمشاركة الأطراف الثلاثة فيه، وفقاً للآتي:
- يجب على الطرف الاول العمل على مشاريع خصخصة لا تحمل معها الفساد والسرقة كما حصل في التجارب السابقة(النفايات،الاتصالات...).
- مهمة الطرف الثاني في الحل هي على الاقل التوقف عن النهش في جسم الدولة باعتبار عملية المحاسبة للافعال السابقة هي من سابع المستحيلات .
- اما الطرف الثالث(وبحسب مسار الاحداث) فعليه انتظار انتصار الطرف الاول،ليس نتيجة لقوة هذا الطرف، بل بسبب جفاف حليب بقرة الدولة، والعمل على رفع درجة ردات فعله، واستمالة الطرف الثاني لتشكيل طرف موحد قوي في وجه عمليات خصخصة جديدة تشبه سابقاتها.

*جميع الطوائف اللبنانية متمثلة في كل طرف.

** طُرح موضوع الخصخصة بشكل رسمي تاريخ ١١/٣/١٩٩٢ في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي.
*** هذا ما جاء في توصية خبراء البنك الدولي في العام ١٩٩٢:" حيال اهتراء الوضع الاداري العام في المؤسسات العامة ومحدودية قدرة القطاع العام على التمويل،نقترح ان يتولى القطاع الخاص تشغيل بعض المشاريع التي يتم تأهيلها وصيانتها ، وان يلعب دوراً رئيساً في تطوير البنى التحتية في المرحلة الاولى من خطة اعادة الاعمار . كما اوصى هؤلاء الخبراء،لاسباب تتعلق بالفعالية والتمويل ، بتخلي الدولة عن عدد من المصالح في القطاع العام ، بينها قطاع الاتصالات وقطاع الطاقة، وايلاء امر تطويرها بصورة كاملة للقطاع الخاص.

بقلم العميد المتقاعد طوني مخايل