د. حسن أبو طالب - صراع الرؤى حول سد النهضة الإثيوبي... مأزق للجميع

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, October 8, 2019

على الرغم من أن العلاقات المصرية الإثيوبية تشهدُ تحسناً عاماً ومطرداً في السنوات الأربع الماضية، فإن ملفَ سد النهضة الإثيوبي يأخذ مساراً مُعاكساً، ولا انعكاس له على مساعي التوصل إلى اتفاق مفصل حول قواعد ملء السد في السنوات الأولى، وإجراءات تشغيله الدائم بما لا يتعارض مع المصالح الثابتة والحقوق المكتسبة لدولتي المصب. ومثل هذا الاتفاق يتطلب تعاوناً شفافاً وتبادلاً للمعلومات بشكل مستمر حول معدلات تدفق النهر في سنواته الغنية بالأمطار أو المحدودة. ومن هنا فالأمر بالنسبة إلى مصر يتعلق بدورة حياة المصريين ككل وعلى مدى سنوات طويلة وممتدة.
التحذيرات التي عبّر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر (أيلول) الماضي، بشأن غياب التوافق حول هذه القضية وتأثيرها السلبي على بلدان دول حوض النيل، وفي المقدمة حياة المصريين أنفسهم، وقوله إن مصر لا تقبل فرض أمر واقع، كانت لافتة للنظر، أقل ما فيها أنها تعبير مباشر وصريح عن درجة عالية من القلق إزاء موقف إثيوبيا الرافض قبول الاقتراحات المصرية بشأن قواعد الملء بشكل مرن يتوافق مع حالة الفيضان وكميات المياه حسب كل سنة على حدة، أو حتى مناقشتها مناقشة علمية. يلاحظ هنا أن الموقف المصري يضع الأزمة في إطار علمي وليس سياسياً، يتعلق بخلافات منهجية حول التأثيرات المحتملة لسيناريوهات ملء الخزان بعد استكمال بناء السد الإثيوبي وكيفية احتوائها من خلال إجراءات مشتركة، ولذا يطالب الموقف المصري بمشاركة في عملية إدارة السد وفق اتفاق شامل يسمح لإثيوبيا بالاستفادة من المشروع بجوانبه المتعلقة بإنتاج الكهرباء أو التوسع الزراعي، وفي الآن ذاته مراعاة حقوق مصر والسودان المائية. وهي الصيغة التي أكدها الرئيس السيسي منذ رئاسته عام 2014، وتقوم على معادلة ثنائية المعايير، وهي حق إثيوبيا في التنمية، وبالتالي قبول السد كمشروع تنموي ذي طابع إقليمي، وفي الآن ذاته حق مصر والسودان في عدم تعرضهما للضرر في حقوقهما المائية. وعملياً تتقبل مصر تحمل بعض الضرر على أن يكون قابلاً للسيطرة عليه.
وتطبيقاً لهذه السياسة اقترحت مصر مشاركة خبراء من البنك الدولي في المفاوضات يقدمون نصيحة توافق عليها الأطراف الثلاثة، رفضتها إثيوبيا، كما طالبت مؤخراً بتدخل المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة، أو قبول وساطة دولية أو أميركية، وأيضاً رفضتها أديس أبابا.
في المقابل ينطلق الموقف الإثيوبي من مبدأ سياسي يتعلق بالسيادة، وتأويله أن النيل الأزرق يمر في إثيوبيا وأن لها الحق في الاستفادة منه وفقاً لمصالحها وأولوياتها، أما مراعاة مصالح دولتَي المصب فبعد إتمام المصالح الإثيوبية أولاً. بعبارة أخرى أن النيل الأزرق هو نهر إثيوبي أولاً وأخيراً، وما تتفضل به على دولتي المصب لا شأن لهما في تحديده، أو التدخل في وضع ضوابط بشأنه. وتجسيداً لهذا الموقف ترفض إثيوبيا أي تبادل للمعلومات حول معدلات تدفق النهر، أو بشأن المواصفات الفنية للسد، أو رؤيتها في إدارته في سنوات الوفرة أو سنوات الندرة.
في السياق ذاته واستناداً إلى تاريخ السياسة الإثيوبية بشأن نهر النيل، فهي لا تقبل توقيع أي وثيقة تتعلق بكيفية التعامل الإقليمي مع مياه النهر، وترفض اتفاقيتي عامي 1929 و1959 اللتين تحددان حقوق مصر والسودان في مياه النهر، وترى أنها غير معنية بهما، لسبب شكلي وهو أنها ليست طرفاً فيهما. أما الاتفاق الإطاري الموقّع في مارس (آذار) 2015 مع مصر والسودان أو بيان التفاهم مع مصر 1993 الموقّع بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإثيوبي ميلس زيناوي، فلا يمثلان بالنسبة إلى إثيوبيا سوى عدة مبادئ عامة تبرز حسن النية، ولكن التطبيق لتلك المبادئ يكون مرهوناً بالرؤية الإثيوبية أولاً وأخيراً.
الرؤيتان على هذا النحو متباعدتان تماماً. ولكلٍّ منهما مخرجات مرفوضة من الطرف الآخر. ولذا يبدو التساؤل المنطقي هنا متعلقاً بمدى تأثير التحسن العام في العلاقات الثنائية على حل هذه الإشكالية، وكذلك على السبل التي يمكن أن تلجأ إليها مصر لضمان الحد الأدنى من مصالحها وحقوقها المائية المكتسبة تاريخياً. والواضح أن مسألة التحسن النسبي في أمور تجارية واقتصادية أو اتصالات شخصية بين كبار مسؤولي البلدين لا تأثير مباشراً لها حتى اللحظة. بل يبدو أن حرص القاهرة على تنمية علاقاتها الثنائية مع أديس أبابا ومع دول حوض النيل الأخرى تُقرأ عكسياً من إثيوبيا باعتبارها ضعفاً في الموقف المصري. وقد أشار الرئيس السيسي إلى شيء من هذا القبيل في مؤتمر الشباب، سبتمبر الماضي، حول تعثر مفاوضات سد النهضة بقوله إن سقوط الدولة في مرحلة ما، كما حدث مع مصر بعد 2011، يجعل دولاً أخرى لا تراعي حقوقها المائية، مشيراً إلى حالة العراق الذي كان من قبل يحصل على 100 مليار متر مكعب من المياه، والآن يحصل فقط على 30 مليار متر مكعب فقط.
والواضح أيضاً أن الالتزام بما تم التوقيع عليه في عام 2015 والمعروف بالاتفاق الإطاري المتضمن عشرة مبادئ مستقاة من القانون الدولي لحل الإشكاليات العملية، بشأن السد وتأثيراته على دولتي المصب لا تأثير له على موقف إثيوبيا. بل يتم التعامل مع تلك المبادئ، وبعضها مصوغ بعبارات فضفاضة، بطريقة تسمح بتأويلات متباعدة تماماً كما هو حادث بالفعل. ولذا يظل التساؤل الأصعب: كيف ستتصرف مصر لحماية حقوقها وعملياً لتقبل أقل الأضرار الممكنة؟ يلاحَظ هنا أن أي حديث عن عمل عسكري هو مستبعَد تماماً من الرؤية المصرية لأسباب متعددة واقعية وإنسانية، ولأن مجرد طرحه سيأتي بنتائج عكسية لن تتوقف عند حد إثيوبيا، بل مجمل دول حوض النيل، وهو ما تتحسب له مصر جيداً.
ولذا يظل التفاوض مصحوباً بتحرك سياسي ودبلوماسي نشط وموسع هو الأساس، وثمة مروحة عريضة جداً من تلك التحركات، وهي لن تأتي بأي نتائج إلا بثلاثة شروط: الأول أن يكون هناك تفهم أفريقي عريض للمخاوف المصرية بما يثمر ضغوطاً حقيقية على إثيوبيا تؤدي إلى مرونة موقفها. صحيح تم بعض الخطوات في هذا المسار، ولكنه لم يصل إلى نتائج مثمرة بعد، والمطلوب حركة مكثفة في أكثر من اتجاه. ثانياً تنسيق أكثر مع السودان الذي يبدو أنه لم يتعافَ بعد من سياسات نظام البشير المخلوع. وثالثاً أن يصبح ملف سد النهضة والتعنت الإثيوبي ملفاً دائماً في علاقات مصر مع أي دولة عربية أو أفريقية أو كبرى. والمؤكد أن تفهم دول عربية كبرى وتأييدها لحقوق مصر المائية سيكون له تأثير إيجابي يأمله كل المصريين.