مطالعة ديوان الشّاعر أديب صعب الحديث "حيث ينبع الكلام"

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, June 12, 2019


في مجموعته الشّعريّة "حيث ينبع الكلام"، الصّادرة حديثًا في بيروت عن الدّار العربيّة للعلوم (أيّار 2019)، يُغني أديب صعب تجربته الشّعريّة الحداثيّة الرّائدة، بعد فوزه بشهادة كبار الشّعراء المُحدِثين، مثل أدونيس وخليل حاوي وبلند الحيدري، الّذين وضعوه في الصّفّ الطّليعيّ لشعراء الحداثة العربيّة، إذ وجدوا في قصائده استمرارًا وتجديدًا للرّيادة الشّعريّة.
في 176 صفحة تحوي 95 قصيدة قصيرة وقصيدة واحدة طويلة، يوزّع صعب مجموعته الجديدة على أقسام، حسب موضوعات القصائد. ففي القسم الأوّل، "شَجَرَةُ الشِّعرِ"، هناك ثماني قصائد تدور على الشِّعر. فهو يرسم بالشِّعر خارطة طريق، يتركها لقرّائه نورًا نابعًا من الحبّ والجمال. ويقطف الشِّعرَ الّذي يهديه إليهم من شجرة الأرض والسّماء، معاينًا "الوجود شعرًا" وملوّنًا "بدم الورود أوّل الرّبيع". هو لا يكتب الشِّعر، بل يتهجّى "صوته الطّالع من رحم المياه"، مكتشفًا "ذلك الوجه من الكون الّذي لسنا نراه"، وموحّدًا الشِّعر بالصّلاة. هنا يصير الشِّعر لا أقلّ من عمليّة كشف، أو رحلة إلى "حيث ينبع الكلام" لاكتشاف "لون الشّمس وعمق الأسرار".
القسم الثّاني من المجموعة، "تحت خيمة الرّبيع"، يحوي 13 قصيدة تصوِّر تحوّلات الزّمان والمكان. هنا يستعين الشّاعر بأبجديّة الرّبيع ليقرأ علامات الفصول. إنّه "الرّبيع يستفيق في دم العباره"، ويصير ترجمانًا للشّتاء، "يحوّل ثلج الجبال سواقي، واليباسَ براعمَ"، لكنّه "يستعير من الصّيف حبرًا لأقلامه المرمريّه". ولا يمكن إلّا أن نتصوّر مدينة باريس مع نهر السّين البديع يخترقها من الشّمال إلى الجنوب، وقد عاش فيها الشّاعر زمنًا، إثر اندلاع الأحداث اللّبنانيّة، وكتب الكثير من شعره، ونحن نقرأ: "وفي المدى تحت الجسور تجري/أحلامنا الزّرقاءْ/تلوّنُ السّماءْ". وحده الشّاعر يستطيع أن يعلن أنّ زرقة الشّمس هي لون الأحلام وقد انعكس على الملأ الأعلى. ونفهم مغزى صورة الغلاف في غير قصيدة، من هذا القسم وسواه، ومنها: "جاءت الشّمس تستريح وقد أرخت على الماء شَعرَها المجدولا/... تصير السّماءُ والأرض زوجينِ".
القسم الثّالث من المجموعة "هكذا يغيّر الصّباحُ دربَه" (15 قصيدة)، تدور قصائده على الأحداث اللّبنانيّة الّتي اندلعت شرارتها في العام 1975، إلّا أّننا نشعر بأنّ مضمون هذه القصائد يترجم واقع حالنا اليوم! ففي هذا القسم نقرأ عن "أولاد الأفاعي يَسرحونْ/في عروق الأرض يمتصّون أعصاب الشّجر" الّذي "أَورثَه الآباءُ جيلًا بعد جيلْ/وسقوهُ بِتَباريحِ العيون". نقرأ عن نازحين "حاملين البؤسَ" وفوق رؤوسهم سماء بلا شفقة، تسودّ ولا تدمع لها عين. نقرأ عن مساء يتثاءب "من نوافذ الصّغار"، في حين يذكّرنا بالرّبيع العربيّ الدّامي حين يقول "يخبّئ الربيع وجهه ويبكي/في يدَي غمامةٍ حزينه"، كما "يغيّر الصباح دربه ويمضي/غيرَ عابئٍ بهذه المدينه". ووسط يأسه، يعلن: "أَعجن العتمَ بالدّمعِ، أقتاتُ خبزَ الظّلامْ"، ويحمل أُمّته الكسيحة "على سرير"، علّ مسيحًا أو مخلّصًا يقيمها من الجحيم.
يلي هذه الأقسامَ "غابة من البهاء" (13 قصيدة). هنا يتوغّل الشّاعر داخل عالم الرّوح في أبعاده وأعماقه، متسائلًا: "كيف يعطَى لِعَينين أن تنطقا ولِوَجهٍ/أن يصلّي/أن يَصير صلاةْ؟"، وتصير يداه شمعتين "تُرفَعانِ كذبيحةٍ مع الغروبْ". لغات الرّوح هذه لا يفكّ ألغازها إلّا من دَرَس "معاجم القلوب". أيَكون الخلاص الّذي يسعى إليه صعب خلاصًا عبر الشِّعر، عبر هذا النّوع من الشِّعر بالذّات وما ينطوي عليه من براءة وطهارة؟ "حفرتكَ العيونْ/جُزُرًا في بحارٍ من الدّمع تأوي إليها رؤانا الحزينهْ.../رسمتكَ دروبًا لها وجُفونْ". لكن لا نظنّنّ أنّ صوفيّة الشّاعر أو روحانيّته المتأصّلة هي من النّوع الّذي يملك جوابًا لكلّ سؤال: "حينَ سألتُ الليلَ كيفَ يولد العذابْ/والموتُ من أيّ مَدًى يأتي وأيّ بابْ؟/جاء الصّباحُ باكيًا/بينَ يديَّ باكيًا/لا يَعرِفُ الجوابْ". وإذ يحاول أن يصوّر هذا العالم الرّوحيّ الّذي يسمّيه "الملكوت"، نسمعه يقول: "لفَّهُ النّورُ، أينَ؟ كيفَ؟ ضاعَتِ العبارَهْ/خانَهُ صوتُهُ فحاوَلَ الإشاره/ثمّ صاحَ، صاحيًا على سُكونْ/وبكى سماءه الّتي تَخونْ"... وكأنّه يضيف مثلًا آخر إلى أمثال المسيح عن الملكوت. وفي هذا القسم قصيدة يهديها الشّاعر إلى جورج خضر، المطران والأديب والفيلسوف الّذي أحبّ شعره وطالما استشهد به في افتتاحيّاته "النّهاريّة": "مَرّةً مَرَّ بالربيعِ أعاصيرَ/وبالموج فاستحالَ سَكينَهْ/وغدًا يَعبر الظّلامَ ويَمضي/تاركًا وجهه لنا أيقونه".
مع قسم "كلّ شيء على ٱسمِكِ"، نحن أمام 24 قصيدة في الحبّ، تتميّز بأبعاد غنائيّة وروحيّة وتأمّليّة تميّزها عن كثير من شعر الحبّ. الشّاعر يستهلّ هذا القسم بقصيدة يعلن فيها أنّه نُوح وأنّ الحبيبة هي السّفينة الّتي يستقلّها نحو الخلاص من طوفان هذا العالم، غيرَ حاملٍ على السفينة من متاع العالم سوى الشِّعر. هو الخلاص، إذًا، يتحقّق بالشّعر، إذ يغدو الشّعر والحبّ توأمين. ويقول إنّه يضع الشِّعر تاجًا على رأس الحبيبة، تاجًا مصنوعًا بذهب الكلام وفضّته وعاجه وكلّ حجاره الكريمة. وتتميّز قصائد هذا القسم ببراءتها: "أُترُكي الجميعَ وٱتبَعيني/دونَ موعدٍ ودونَ وقتِ/وخُذي يدي، خُذي غدي، خُذيني/بعدَ ذاكَ حيثُ شئتِ". ويسأل الحبيبة: "من أينَ وَصَلتِ ومُوصَدَةٌ كلُّ الأبوابْ؟". ويعلن أمامها: "كنتُ أبحثُ عن نغمٍ لا يجيءُ إلى أن أتيتِ". كما يطلب إليها: "أُنظُري المرآةَ يكفي/تَجِدي أحلى قصيدهْ". ويستنجد بالحبّ كي يتعلّم "حروف الهجاء" و"أوزان الشِّعر"، ويسمّي "مجاهيلَ لا ٱسمَ لها بَعدُ". إنّه الحبّ، اللغة الكونيّة الّتي معها "ينتفي عملُ التّرجُمانِ". وفي هذا القسم قصيدة من ثلاثة أبيات، استعمَلَ بيتها الأخير لكي يهدي كتابه إلى زوجته إيلين (دمعه): "وتَمشينَ بين الحروفِ، فتَسألُ/مَن، يا ترى، من تَكونُ القصيده؟".
في القسم السّادس من المجموعة الشّعريّة، تأتي قصيدة طويلة بعنوان "شوارع المدينة"، سنعود إليها بعد استعراضنا القسم الأخير من المجموعة، وهو "من دفتر الطّفولة". ويحوي 21 قصيدة اختارها الشّاعر من قصائد كتبها وهو دون العشرين ولم تجد طريقها إلى النّشر في كتاب قبل الآن. وكان قد كتب قبلها عددًا من القصائد الّتي نشرها في مجموعة بعنوان "قيثارة الضّياء"، نالت إعجاب أهل الثّقافة وتشجيعهم. وممّا كتبه الشّاعر "أدونيس" حول تلك القصائد: "في هذه المجموعة شعر يدهش. إنّه يكشف عن موهبة غنيّة، والموهبة أساس العمل الشّعريّ. ويكشف عن براعة تقنيّة في البناء والتّعبير، لا تتوافر إلّا لموهوب تمرّسَ طويلًا بكتابة الشِّعر. يكشف أيضًا عن بعد روحيّ وفكريّ، هو من النّضج والشّفافيّة قلّما نراه عند شخص في مثل هذه السّنّ، وإذا رأيناه نستطيع أن نقول عن صاحبه، بتيقُّن، إنّه غير عاديّ. أديب وليم صعب، هذا الطّفل الشّاعر، ظاهرة فنّيّة نادرة" (جريدة "النّهار"، بيروت، الأربعاء 15 تشرين الثاني 1961).
وفي حين تتوزّع قصائد الأقسام السّابقة من "حيث ينبع الكلام" على مفاتيح موسيقيّة كثيرة ويجري معظمها على نسق التّفعيلة وقلّة منها على النّسق العمودي، ففي هذا القسم عشر قصائد عموديّة، أي نصف قصائد القسم تقريبًا. وكما في شعر التّفعيلة لديه، هناك غنى موسيقيّ في شعره العموديّ أيضًا، قلّما نقع على مثله مع الشّعراء الّذين كتبوا ويكتبون الشِّعر الموزون. إلى هذا النّضج الرّائع في الشّكل، تكشف هذه القصائد عن نضج في المضمون، حتّى لِيَعجَبِ القارئ المطّلع على الشِّعر العربيّ والشِّعر عمومًا، كيف يكتب فتى دون العشرين قصائد بهذا المستوى، تصحّ عليها صفة "عيون الشِّعر". ويدور عدد من قصائد هذا القسم على حبّ الوطن والتّعلّق بالأرض، مع تطلّع متفائل نحو المستقبل... هذا المستقبل الّذي وأدَته الحروب الدّاخليّة المتلاحقة، وقد تركت أثرًا أليمًا في قصائد الشّاعر اللاحقة. وهنا نموذج من آماله الطّفوليّة: "حَدُّكِ الأنجُمُ أم تلك الذُّرى/أم جناحٌ أزليٌّ لا يُرى/صَوَّرَ المطلقَ في وَثبتِهِ/وتَسامى نحوَ ما قد صَوَّرا". ونموذج آخر: "أعرِفُ أنّ البحرَ في بلادي/لها، وأنّ الشَّمسَ والثّلوجْ.../فلتأتِ من أيّ مدًى، لم أدرسِ الخريطهْ/لكنّها تحلّ في أرضي/في جسدي وتكتسي خُطوطَهْ". لكنّ هذا القسم زاخر أيضًا بالقصائد الوجدانيّة التّأمّليّة: "أَغرَقُ في مغاورِ الظّلامِ/تحترق الأوراقُ من كتابتي/تحترقُ الأصواتُ من كلامي". ويبدو أنّه حرص على اختتام مجموعته بواحدة من قصائد الطّفولة الّتي تتحدّى الزّمن: "تسألُني هل قلتَ كلَّ شَيّْ؟/أقولُ لا ما قلتُ شيئًا بَعدْ.../أَحملُ أشعاري إلى بلادٍ/في آخرِ الآفاقِ خلفَ النّظَرْ.../أعيشُ في مواسمِ المنتظَرْ".
"شوارع المدينة" (123-131) هي القصيدة الوحيدة الطّويلة في المجموعة. وقد كتبها الشّاعر اثناء هجرته القسريّة إلى باريس، بسبب الأحداث الّتي ضربت لبنان في العام 1975. وتنطوي القصيدة على ثنائيّة الأمل واليأس. "تتمشّى شوارعُ المدينهْ/في عروقي ويَرفض الظّلامُ أن يجيءْ": هكذا يفتتح صعب قصيدته، وكأنّي به يقطع شوارع باريس وقد حمل مدينته بيروت في عروقه. ويصف فرحه: "فرحٌ، سَمِّهِ الرّبيعَ، إنّه ٱنبعاثُ كونٍ/لا يسمَّى، ورعشةٌ تلوِّن المدى ولا تُقالُ". هو فرحٌ يحمل بشائرَه "عصفورُ الحُبّ الأزرق". لكن سرعان ما ينقلب هذا الفرح إلى نقيضه، لأنّ "الرّماد خنقَ الصّدى وأطفأ العيونْ"، وجعل عصفور الأمل والفرح يطير. وإذا بالشّوارع تعجّ بالقتل والدّماء، ويصير "كلٌّ عدوًّا لكلٍّ/بٱسم آلهةٍ تَخنق الحبّ". وتلي مقاطع من القصيدة تصوِّر بعض ما كان يحصل في شوارع المدينة، ومنه القتل بٱسم الدّين، أي ما كان يسمَّى، في مصطلح الحرب، "القتل على الهويّة". لكن ما الدّين بدون "السّلام"؟ هؤلاء قوم، إذًا، ينتحلون اسم الدّين. وفي المقطع الأخير من القصيدة يسعى الشّاعر إلى خَلق وطن بديل: "ألَيس وجه أُمّي وأبي وطنًا/أليست القصائد الّتي تناثرت على الدّروب من رماد قلبي/وطنًا؟". وتنتهي القصيدة بنبرة رجاء، لكنّه رجاءٌ لوّنته غيوم في السّماء، "صعدَت من دمٍ أُريقَ في مَخادعِ الصّغارِ في الليالي/ حضنَت منبعَ الضّياءِ فوق قمم الجبالِ".
في أُطروحة الدّكتوراه (الجامعة اللبنانية) الّتي تناولتُ فيها الرّموز والإشارات الدّينيّة في شعر أديب صعب إلى جانب خليل حاوي وديزيره سقّال، وجدتُ أنّه أكثر شعراء الحداثة العربيّة استخدامًا لها. كما وجدتُ أنّه يلجأ إلى هذه الرّموز ليحقّق عبرها ما سمّاه الشّاعر – النّاقد تي إس إليوت "البديل الموضوعيّ"، أي الواسطة الّتي يعتمدها الشّاعر لكي يمدّ جسورًا بين تجربته الشّخصيّة وقرّاء شعره. الرّمز هنا، كما سمّاه أديب صعب، هو "الرّمز الكاشف" تمييزًا له عمّا سمّاه "الرّمز السّاتر". وهو تَوصّل إلى هذا التّمييز المهمّ بين "الرّمز السّاتر" و"الرّمز الكاشف" للمرّة الأُولى يوم طَلب إليه أُستاذه خليل حاوي تقديمه في أُمسية شعريّة في "معهد غوته" في بيروت عام 1975، ونُشرت المقدّمة في "النّهار" (أديب صعب، "الشِّعرُ كَشفٌ، لا نَظْم أفكار"، جريدة "النّهار"، بيروت، السّبت 17 أيّار 1975، ص 7). وحسب شرح صعب، يقوم الرّمز السّاتر على إبدال كلمة بكلمة، كما في تشبيه الدّمع باللؤلؤ والخدّين بالورد والشّفتَين بالعنّاب والأسنان بالبَرَد. هنا يلجأ الشّاعر إلى سَتر ما يعرفه لدواعٍ جماليّة أو اجتماعيّة (مثل المحرَّمات). أمّا الرّمز الكاشف فتحتّمه التّجارب الوجوديّة الكبرى، حيث يعيد الشّاعر تركيب العالم بعناصر فكريّة وشعوريّة وصوريّة، وباختصار بعناصر معنويّة يجتهد للقبض على ماهيّتها وتسميتها. بالرّمز السّاتر يَستر الشّاعر ما يعرفه ويعرفه قرّاؤه. أمّا بالرّمز الكاشف فيحاول الشّاعر – الرّائي أن يعرف وأن يُظهِر ما لا يعرفه هو وقرّاؤه.
في شعر أديب صعب يجتمع عنصران قَلَّما نراهما في الشِّعر، هما البساطة والعمق. ونأخذ من مجموعته الحاليّة قصيدة بعنوان "في البراري" (ص 42-43) مثلًا على ما نقصد. يستهلّ قصيدته برسم لوحة من الطّبيعة: "في البراري/حيثُ لا أبوابَ، تغدو الشَّمسُ بَوّابًا يغنّي/نافخًا عبر مزاميرِ الهواءْ/وتجيءُ الطَّيرُ أسرابًا كما من فَلَواتٍ في السّماءْ". ويأتي المساء، فينضمّ القمر إلى هذه اللوحة: "ثم يأتي حارسُ الليلِ وقد فاحت من الأرضِ الطّيوبُ". هنا تأتي الاستعارات الدّينيّة بكثافة: "وهُتافٌ يملأُ الأصقاعَ: هذا ٱبني الحبيبُ". عبارة "هذا ابني الحبيب" تذكّرنا بقصّة معموديّة المسيح في الإنجيل. وكأنّما قصدَ الشّاعر باستعارته هذه الإيحاء بأنّ الطّبيعة لا تقوم في ذاتها، بل هي قبس من الألوهة. وهذا يتأكّد مع الصّورة اللاحقة: "ويطلّ القمرُ الحاني على عرسٍ، يصيرُ الماءُ نورًا ويَصيرُ النّورُ ماءْ". هنا يستعير الشّاعر القصّة الإنجيليّة حول عرس قانا الجليل، الّذي ظهرت فيه أُولى معجزات المسيح بتحويله الماء خمرًا، ليقدّم لنا صورة عن الطّبيعة المسحورة، الطّبيعة المتحوّلة من "كتلة حجار وتراب لا معنى لها ولا قيمة في ذاتها إلى مرآة تعكس وجه الله"، كما يقول أديب صعب في فلسفته. وهو مؤلّف خماسيّة معروفة في فلسفة الدّين (دار النهار، 1983-2015)، جَعَلَت منه أوّل المفكّرين العرب وأبرزهم في هذا الحقل الفلسفيّ الدّقيق. لكنَّ هذا لا يعني أنّ شعر أديب صعب هو فلسفة بحتة. أوّلًا، شعرهُ مليء بالصّور الحيّة الملوّنة، في حين أنّ الفلسفة تجريد ذهنيّ. ثانيًا، الشِّعر، كما في تعبير صعب أيضًا، حياة أو "نشاط أوّليّ"، في حين أنّ الفلسفة نشاط تحليليّ، "ثانويّ"، بمعنى أنّ الفلسفة تلي الشّعر وأيّ نشاط آخر من النّشاطات الإنسانيّة لتحلّله وتحدّد ماهيّته ونطاقه ومنطقه. مجموعة أديب صعب الشّعريّة الحاليّة تضمّ قصائد منسوجة كلّيًّا من صوَر تسبح في فضاء من الخيال. عبثًا نبحث فيها عن تجريد. أمّا إذا كان التّأمّل الفكريّ أحد معاني الفلسفة، فهذه المجموعة غنيّة جدًّا بالتّأمّل والفكر. التّجديد الشّعريّ عند أديب صعب نابع من تجديد في الفكر والحياة. نحن هنا أمام شعر يقدّم صورة للعالم والحياة والإنسان. وبناء العوالم هو من عمل الشّعراء الكبار فقط. ومن عناصر العظمة في "حيث ينبع الكلام" الموسيقى الشّعريّة الغنيّة. فمنذ قصائد الطّفولة يمتلك صعب ناصية اللغة والوزن الشّعريّ، مع غنى في تنويع الأوزان ربّما لا نجده عند شاعر آخر. وفي المجموعة الحاليّة عدد كبير من القصائد الّتي تقوم على مفاتيح موسيقيّة مبتكَرة، لا عهد للشِّعر العربيّ بها. وتتضاعف أهمّيّة هذا الغنى الموسيقيّ في المجموعة إذ يرافق عالمًا جديدًا يقدّمه لنا أديب صعب بفضل صوره واستعاراته ورموزه الكاشفة. ختامًا، "حيث ينبع الكلام" مجموعة قصائد رائدة ومُجَدِّدَة، تعيد إلى المكتبة الشّعريّة العربيّة عصرًا ذهبيًّا طال انتظاره.

بقلم: مايكل موسى (أستاذ ثانوي وطالب دكتوراه في الجامعة اللّبنانيّة)