أحمد الصياد - من هنتنغتون وفوكوياما إلى ترامب... لا تحزن!

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, June 5, 2019

عن عمر ناهز 69 عاماً، رحل الاتحاد السوفياتي السابق إثر إصابته بضربات متتالية من الداخل والخارج، تاركاً إرثاً ضخماً، ملأ الدنيا، وامتد إلى الفضاء، مناصفة مع غريمه القطب العالمي الآخر، الولايات المتحدة الأميركية، التي أعلنت فوزها في الحرب الباردة، وحوَّلت النظام العالمي من الثنائية إلى الأحادية القطبية.


فرضت الأحادية القطبية شروطها على المجتمع الدولي المرهق جرّاء ما حفلت به الحرب الباردة من حروب بالوكالة، واستقطاب شاق، وتنازع مسلّح على نفوذ لا يحترم الحقوق المشروعة للشعوب في حياة آمنة. حتى أن تغيّراً واضحاً نال من الأجندة الدولية؛ فباتت أولويات المنظمة الأم، الأمم المتحدة، تكاد تنحصر في قضايا اجتماعية واقتصادية بالأساس، على ما لها من امتدادات سياسية مؤلمة احتكرها القطب الأوحد. واعتلت الأولويات قضايا حرية التجارة ورؤوس الأموال، ومكافحة الاتجار في البشر، والسلاح، والمخدرات، فضلاً عن قضايا البيئة، والتغيرات المناخية، والهجرة غير الشرعية، بينما احتجز القطب الأميركي ملفات النزاعات السياسية الساخنة، وقيَّد قدرة الأمم المتحدة عن التوغل فيها خارج نطاق نفوذه. وبالطبع، احتفظ بملف الصراع العربي - الإسرائيلي بمذاقه العتيق، الذي يزداد مرارة مع الأيام، والذي لم تعد الأمم المتحدة تملك فيه إلا تاريخاً يزخر بقرارات خرجت تحت وطأة منافسات الحرب الباردة، وإن لم تجد طريقها نحو التطبيق، ما شكَّل مؤشراً موضوعياً على انحسار قدرة القطب السوفياتي في مجرد تشويه "الفرح" الأميركي من دون إلغائه، فيما تعسَّفت واشنطن في زعامتها، فلم تترك لحلفائها الأوروبيين حق المشاركة في هذا الملف العتيق إلا في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية، من دون أثر سياسي فاعل.

وبينما انشغلت الجمهوريات السوفياتية الـ 15 بتركة "الفقيد" (الاتحاد السوفياتي)، مارَس "الابن الأكبر" (روسيا) ضغوطه، فاستحوذ على نصيب الأسد، فيما قنع كل وريث بما في حوزته بالفعل، وراح محاولاً الهروب والتحلل من قيود حديدية لطالما منعت الحركة باتجاه الغرب المتفوّق المرفّه. دارت في الولايات المتحدة مناقشات فكرية واستراتيجية جادة وعميق، اشتركت فيها دوائر عملية صناعة القرار كافة، الرسمية وغير الرسمية، استهدفت الإجابة عن فرضية بعينها، يمكن إيجازها في سؤال واحد: هل من الضروري أن تظل الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي، أحادي القطبية، على رغم الكُلفة العالية لذلك؟ أم تتراجع إلى داخل حدودها، مكتفية بالهزيمة المنكرة التي ألحقتها بمنافسها التقليدي (الاتحاد السوفياتي)؟

وبرز رأي وجيه دعا للانكفاء إلى داخل حدود يحيطها مانع مائي ضخم، ومن أمامها وخلفها حدائق سياسية غناء لا تثير ما يُقلق، تخفيفاً للنفقات، وتحجيماً لما تواجهه الولايات المتحدة من عداء ينال من أبنائها في الخارج، مع بقاء القدرة على التدخل لدرء أي خطر يهدد مصالحها العليا. ونوّه أصحاب هذا الرأي بالتدخل الأميركي الفعال الذي أنهى حربين عالميتين، بعدما كانت الولايات المتحدة أكملت في الداخل تفوقها الاقتصادي، الأمر الذي مكنها من إنقاذ حلفائها الأوروبيين بعد الدمار الذي لحق بهم جراء الحرب العالمية الثانية من خلال "مشروع مارشال" التاريخي.

غير أن الغلبة كانت للرؤية المتجهة إلى التمسك بزعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي؛ إذ رأى أصحابها، وكانوا أغلبية مؤثرة، أن في ذلك صيانة حتمية للمصالح الأميركية وتنمية لها، بما يحقق عوائد تفوق الإنفاق الهائل وتزايد العداء لها. واستند أصحاب هذا الرأي إلى أن قدرة الولايات المتحدة على إنهاء الحربين العالميتين (الأولى والثانية)، يؤكد أن السلم والأمن العالميين في حاجة مُلحّة إلى وجود أميركي يقظ على الساحة الدولية، بل إن انسحاب أميركا من الساحة الدولية، قبل الحربين العالميتين، كان سبباً كافياً لقيامهما. وارتكزت الاستراتيجيا الأميركية التي وضعت لتحقيق ذلك الهدف على نظريتين: الأولى، أنتجها عالم السياسة الأميركي والمفكر المحافظ صاموئيل هنتنغتون (1927 - 2008) في كتابه "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، أكد فيها أن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تحدث بين الدول القومية، لما بينها من اختلافات سياسية وتنافس اقتصادي، ولكن ستحدث بين الحضارات، نظراً إلى ما بينها من اشتباكات ثقافية حادة وتنازع ديني عميق. واستند هنتنغتون إلى عدد من الصراعات المسلحة تملأ فضاء العالم الإسلامي حينئذ، مثل الصراع السوداني بين شمال مسلم وجنوب مسيحي، والصراع بين الهند وباكستان، بل داخل الهند ذاتها بين المسلمين والهندوس، فضلاً عن مشكلات التركمان في الصين، والمسلمين الأتراك في بلغاريا، وامتدت أفكاره لتشير إلى تنامي العنصرية في ألمانيا وإيطاليا ضد المهاجرين من ذوي الأصول الإسلامية المتحدّرين من شمال أفريقيا وتركيا. وعليه، أكد هنتنغتون أن الصراع في الحرب الباردة كان آيديولوجياً بين الرأسمالية التي مثّلها المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة، والشيوعية التي اعتنقها المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي. إلا أنه بانتهاء الحرب الباردة بفوز المعسكر الغربي، بات الصراع حضارياً وليس أممياً، وله أوجه ثقافية ودينية بالأساس، وعليه فإن الإسلام يشكل الخطر الحقيقي على الحضارة المسيحية.

والواقع أن نظرية هنتنغتون بدأت بمقالة صادمة نشرها الرجل عام 1993 بعنوان: "صراع الحضارات"، نشرها في مجلة "فورين آفّيرز"، وصل فيها إلى النتيجة نفسها: "الحضارة الإسلامية هي أخطر الحضارات على الحضارة المسيحية". وقصد هنتنغتون بمقالته تفنيد أطروحة تلميذه عالم السياسة فرانسيس فوكوياما، (الابن الوحيد لأبوين من أصول يابانية والمولود في مدينة شيكاغو الأميركية عام 1952) "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، التي وضعها في كتاب عام 1992، بعدما كانت هي الأخرى مقالاً نُشر في عام 1989 في مجلة "ناشيونال انترّست"، وهي النظرية الثانية التي استندت إليها الاستراتيجيا الأميركية للاحتفاظ بزعامة النظام العالمي. رأى فوكوياما أن صراع الآيديولوجيات يكاد يكون انتهى بنهاية الحرب الباردة وتفوق الغرب بقواعده الفكرية، التي أسقطت سور برلين، في عام 1989، كعلامة لا تخيب عن زوال الشيوعية؛ ومن ثم فإن انتشار الديموقراطية الليبيرالية وتفوق الرأسمالية وفرض معطياتها على العالم، يؤكد أن البشرية بلغت أعلى نقطة من التقدم والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فما حققه الغرب، يُعد منتهى التقدم الممكن للبشرية، ولم يعد له حاجة إلى الحروب، التي ستظل وسيلة الدول المتخلفة والنامية لحلّ نزاعاتها، والتي ستصدّر تداعياتها إلى الغرب المتقدم. وعليه، فقد بشَّرنا فوكوياما بنهاية التاريخ كاتجاه لا كأحداث؛ إذ سيبقى التطور البشري حتمياً طالما بقيت البشرية، ولكنه سيبقى دائماً وإلى نهاية التاريخ "باتجاه" الديموقراطية الليبيرالية بأوجهها وتطبيقاتها كافة، ولن يظهر اتجاه آخر يجذب البشرية إلى ما هو أفضل. إذ تعجز الآيديولوجيات الأخرى عن منافسة الديموقراطية الليبيرالية.

على ضوء هذه الخلفية، كان توصيف حركة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، بعد انتهاء الحرب الباردة. إذ كانت الاستراتيجيا الأميركية واقعاً لا مهرب منه أمام أي رئيس، سواء من الجمهوريين أم من الديموقراطيين. وترسخت فكرة حكم المؤسسات، من دون أن ينفي ذلك ما يتيحه الدستور الأميركي من صلاحيات كبيرة لمنصب الرئيس. إذ إن حكم المؤسسات يُلزم الرئيس أياً كان بالاستراتيجيا الأميركية، مع هامش حركة يقل أو يزيد وفق الظرف الراهن ومعطياته.

والحال على هذا النحو، وبخطاب عاطفي يستثير مشاعر الوطنية، على حساب مفاهيم العولمة وحرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال والبشر... إلخ، طرق دونالد ترامب أبواب البيت الأبيض في عام 2016، ودخله في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2017 حاملاً فكره السياسي "الشعبوي"، المناهض لحكم النخبة، والطاعن في جدوى المؤسسات، والرافض لكثير من تطبيقات الديموقراطية الليبيرالية. ليعيد إلى موائد البحث والتفكير، هناك طبعاً، فرصة إعادة النظر في استراتيجيا أميركية جديدة، تُبقي على الزعامة الأميركية للنظام العالمي، مع إمكان الانسحاب إلى الداخل. والملاحظ أن ترامب، تعهد عند ترشحه للرئاسة بتحقيق نموّ في الاقتصاد الأميركي بنسبة ثلاثة في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو أمر نفى الخبراء إمكان حدوثه. لكن ترامب حقق بالفعل نسبة نمو بمعدل 2.9 في المئة خلال عام 2018. فهل يكون ترامب، المؤسس الفكري لاستراتيجيا أميركية جديدة، بديلاً من هنتنغتون وفوكوياما؟ رحل هنتنغتون، وبقي فوكوياما، إذ برر وجود ترامب في البيت الأبيض عندما حلل الشخصية الأميركية في كتابه الأخير "الهوية"؛ إذ رأى أنها صارت "هوية ضيقة تعتمد على حماسة أصحابها، وتستبعد أجزاء كبيرة من الأميركيين"، وذهب إلى أن الحل يكمن في تشكيل الهوية بطريقة تدعم الديموقراطية بدلاً من أن تقوضها كما هو الحال الآن، فالهوية الحقيقية، في نظره، هي "الهوية الإنسانية العالمية". أكد فوكوياما أن العالم يشهد تراجعاً ملموساً في الديموقراطية في أنحائه كافة تقريباً؛ إذ باتت الدول الاستبدادية بقيادة الصين وروسيا أكثر تأثيراً وتراجعت ديموقراطيات ليبيرالية بدت ناجحة خلال تسعينات القرن الماضي وتحوّلت إلى الاستبداد.

وبإقرار فوكوياما بمثالية نظريته الشهيرة، نحن نعيش بالفعل في "عصر ترامب"، الذي يؤكد نجاحه كم أن الاستراتيجيا الأميركية في الاحتفاظ بزعامة النظام العالمي، إنما تأسست على أحلام فوكوياما، وعنصرية هنتنغتون.