عن غياب الشمولية في "سيدر" و"رؤية ماكينزي

  • شارك هذا الخبر
Friday, May 24, 2019

يكاد لا يخلو أيّ خطابٍ أو تصريحٍ سياسي منذ ما قبل الانتخابات النّيابية الأخيرة في لبنان من ذِكر مؤتمر "سيدر" والآمال المعقودة عليه كأنّه خشبة الخلاص للنّهوض بالاقتصاد الوطني الذي تُظهر المؤشرات كافّة أنه بلغ درجات الخطورة القصوى وأصبح الحديث بشأنه يتمحور حول من يتحمّل كلفة التّصحيح وكيف سيتمّ توزيع الخسائر. بعدها، أتت شرائح "ماكينزي"، أو رؤية لبنان الاقتصاديّة، لتوجّه النّقاش حول القطاعات الأكثر قدرةً وسرعةً على إنعاش الاقتصاد من دون أن يتمّ تبنّيها رسميّاً، ولتبقى متأرجحةً بين الدراسة الرؤيوية والـ "مجرّد أفكار" للبحث.

يشكّل "سيدر" (نيسان/أبريل ٢٠١٨) المؤتمر الرّابع من ضمن سلسلة مؤتمرات دعا إليها أو نظّمها المجتمع الدولي والجهات المانحة (باريس ١/٢٠٠١، باريس ٢/٢٠٠٢ وباريس ٣/٢٠٠٧) بهدف دعم الاقتصاد اللّبناني وتحفيز الاستثمار فيه عبر قروضٍ ميسّرة ومشروطة برزمة إصلاحات اقتصادية وتشريعيّة ضروريّة. يأتي هذا المؤتمر بعد سلسلة الأزمات السياسية المتلاحقة التي عصفت بلبنان ومنعت تحقيق الأهداف المرجوّة من المؤتمرات الثلاث الأول، وبعد تردّي الأوضاع الاقتصادية في ظلّ اشتداد الأزمة السوريّة ولجوء أكثر من مليون سوري إلى لبنان. لقد قدّمت الحكومة اللّبنانية خلال المؤتمر خطّةً للنهوض ولتحفيز النمو الاستثماري من خلال سلّة مشاريع لتطوير البنى التحتيّة لثماني سنوات ترتكز بمعظمها على الشّراكة مع القطاع الخاص. في موازاة ذلك، أجاز مجلس الوزراء في نهاية العام ٢٠١٧ لوزير الاقتصاد والتجارة إبرام عقد مع شركة ماكينزي الاستشارية (وُقّع في كانون الثاني/يناير ٢٠١٨) بغية وضع إطار عمليّ لرؤية لبنان الاقتصادية للسّنوات الخمس القادمة ورسم خارطة طريق تطبيقيّة لمقرّرات "سيدر". بدورها، أتت الخطّة المنجزة والمنشورة بداية عام ٢٠١٩ بمقاربة قطاعيّة حدّدت فيها القطاعات الأكثر مُساهمةً في النموّ وسرعةً لإخراج الاقتصاد اللبناني من دوّامته مُتوّقعةً أن تُولّد ٣٧٠ ألف فرصة عمل جديدة وأن تُخفّض البطالة إلى ٨% في حال تطبيق التّوصيات كافّةً.

في الواقع، على الرغم من إيجابيّة بعض الأمور المطروحة، تعتمد الخطتان نظرة قطاعيّة عاموديّة بحتة، وتطرح مجموعة مشاريع استثمارية ضخمة ومستقلّة تقتفر لمقاربة عابرة للقطاعات تولي التبعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئيّة لهذه المشاريع الأهميّة اللّازمة. إنّ عدم التركيز على التداخلات البنيويّة بين مختلف هذه المشاريع وعدم مقاربتها بنظرةٍ اقتصاديّة شاملة عابرة للقطاعات سيحدّ من إمكانية إحداث نمو طويل الأمد وتحقيق إصلاحات جذرية. فأيٌّ من الخيارات التالية مثلاً أكثر محافظةً على شبكة الأمان الاجتماعي وأكثر عدالةً للمواطنين: بناء الطّرقات والجسور المتفرّقة، أم إنشاء نظام نقل عام عصري وفعّال وخطوط لنقل الركاب والبضائع بالقطارات؟ بناء عدّة معامل على الغاز لإنتاج الكهرباء، أم دمجها بحلول بيئية مستدامة تعتمد طاقتي الشّمس والهواء؟ إنّ التطلّع الى هذه المشاريع بنظرةٍ قطاعيّة سيكون بمثابة تخدير آنيّ يسكّن الأزمات لبضع سنوات كما فعلت مشاريع باريس السّابقة، فيما هي حقيقةً تٌفاقم الدّين العام وتُصعّب خدمته لآجال طويلة الأمد. فصحيح أن باريس-٢ ساهم مرحليّاً في خفض نسبة الدّين العام للنّاتج المحليّ نتيجة اكتتاب المصارف في سندات خزينة بفائدة ٠%، إلّا أن تكاثر الأحداث الأمنية المتلاحقة والأزمات البنويّة التي يعيشها الإقتصاد لم تفلح في إحداث تغيير جذري.

أضف إلى ذلك، أن الخطتان لم تتطرقا الى أساسات الخلل القائم المتمثّل بضعف إنتاجيّة مؤسّسات الدّولة، والفساد المستشري، والزبائنيّة والمحسوبيّات، وعدم تفعيل أنظمة المراقبة والمساءلة وتطويرها وغياب الشّفافية، فهل من رؤيةٍ فعليّة للغوص في هذه الإشكاليّات قبل تنفيذ المشاريع؟
أمّا ونحن اليوم في خضمّ النّقاش حول موازنة العام ٢٠١٩ وكيفيّة جعلها تقشّفية من خلال تقليص النفقات وزيادة الواردات لتطبيق إلتزامات "سيدر"، والتي للمفارقة لا تذكر توصيات "ماكينزي"، فلا بدّ لأي خارطة طريق تطبيقيّة للمشاريع المطروحة أن تشمل القضايا الأربعة التالية:

تفاقم الدين العام وغياب رؤية اقتصادية شاملة: لا شكّ أنّ كلّ المؤشرات الاقتصادية للبلاد توحي أنّنا دخلنا مرحلة الخطر، في ظلّ عجزٍ في الميزان التجاري بلغ ١٤.٤ مليار دولار في ٢٠١٨ وعجزٍ في ميزان المدفوعات بلغ ٤.٨ مليار دولار في ٢٠١٨ وما مجموعه حوالي ١٧ مليار دولار بين ٢٠١١ و٢٠١٨. لذا، لا يمكن لأي مشروعٍ إصلاحيّ إلّا أن يقارب النّموذج الاقتصادي ككلّ ويحدّد السياسات التي يمكن من خلالها الشّروع في تخفيف العجز وخدمة الدّين العام. وقد أثبتت التّجربة أنه من الصعب أن يتحقّق عبر إعداد لائحة مشاريع استثمارية قطاعيّة فحسب مثل الطرقات والجسور ومشاريع الكهرباء والمياه والصّرف الصحّي والاتصالات، بل عبر تحديد الرؤى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة للمدَيين المتوسّط والبعيد ووضع نظامٍ ضريبي عادل يحقّق التوازن الاجتماعي والنّقدي ويمنع التهرّب الضريبي.

التفاوتات الاجتماعية المتزايدة، خاصةً في المناطق التي يتركز فيها الفقر في الأطراف وضواحي المدن حيث يظهر يومًا بعد يوم ضعف العدالة الاجتماعية في حصول اللبنانيين على الخدمات الأساسية. في المقابل، لطالما قُدّمت مشاريع البنى التحتيّة الاستثمارية على أنّها تستهدف الفئات الأكثر فقرًا وعلى أنها تسعى إلى تأمين هذه المساواة، في حين أن أثرها غالبًا لا يشمل كافّة الفئات ولا يضمن التداخل الاجتماعي المنشود. لذا، لا بدّ من السؤال قبل الشّروع في الاستثمارات القطاعية حول الدّوافع الأساسية لغياب هذه العدالة ومدى ترابط مشاريع البنى التّحتيّة بذلك، وكيفيّة الحدّ من آثارها السّلبية من خلال نظرة شاملة لكافّة القطاعات.

الفساد وغياب النزاهة: لم تقارب الخطتان العوائق السّياسية الأساسية أمام عدم الحصول على خدماتٍ عامة لائقة خلال العقدين الأخيرين، فلم تتطرّق لا إلى تداخل المصالح السّياسية والاقتصاديّة في المناقصات العامّة ولا إلى الزّبائنية والطائفيّة في توزيع مشاريع القطاع العام. لذلك، يتعيّن على المشرفين على تطبيق المشاريع في مختلف القطاعات، إعادة النّظر بمبدأ المناقصات العامّة وكيفيّة إدارته، كما النّظر في كيفيّة تعزيز الرّقابة والشّفافيّة من خلال تطبيق القوانين والإفصاح عن المعلومات، خاصّةً في ظلّ إقرار الدّولة بأهمية هذه الخطوة من خلال إقرار القانون ٢٨/٢٠١٧ المتعلّق بحقّ الوصول الى المعلومات ووضع خارطة طريق واضحة لتنفيذه.

التدهور البيئي: خاصة أن المشاريع التي تهدف الى توفير البنية التحتية والخدمات الأساسية غالباً ما تترافق مع خطرٍ على البيئة، ولا تأخذ مفهوم الاستدامة بعين الاعتبار. لذلك يجب على أي خطّة استثمارية مستقبليّة وفي أيّ قطاع كان أن تدرس التداعيات التي قد تتسبّب بها في المنظومة البيئيّة الهشّة وأن تعتمد معايير الاستدامة وتغيّر المناخ من خلال تطبيق التكنولوجيّات الصديقة للبيئة.

بمعزلٍ عن النقاش المحتدم عن مدى حاجة لبنان الى أموال "سيدر" ورؤية "ماكينزي" وإمكانيّة تأمين ما يوازيها من خلال إصلاحات بنيويّة جذريّة تقارب المنظومة الاقتصاديّة ككلّ وتُجنّبنا المزيد من الدّين والحاجة الدّائمة للتحويلات الخارجية، وإذا سلمنا جدلاً أنّ الحاجة لهذه المؤتمرات ملحّة في بلدٍ يبلغ فيه الإنفاق الاستثماري على تجهيز البنية التحتية وصيانتها نسبةً متدنّية لا تتجاوز 1.6% من الناتج المحلّي الإجمالي، كيف يمكن تحقيق العدالة في توزيع نتائج ومخرجات هذه المشاريع الاستثمارية لكي تشكّل فرصة حقيقية للنموّ والازدهار ولمجتمع أكثر عدالة؟ هي دعوةٌ لنقاش علميّ هادف وبنّاء لا يُستثنى منه أحد، يشمل جميع المعنيين في صوغ السّياسات العامّة من حكومةٍ ومجلسٍ نيابي وإدارات عامّة ومجتمع المدني وباحثين وخبراء وأخصائيين وجهات مانحة للبحث والحوار في كلّ هذه الإشكاليّات وخاصةً تلك التي تختصّ مباشرةً بالقضايا الأربعة أعلاه بغية الاتعاظ من التجارب السّابقة.


مارك أيوب - باحث في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدّولية في الجامعة الأميركية في بيروت