الياس الزغبي- شهادة شخصية في استشهاد بشير الجميّل

  • شارك هذا الخبر
Tuesday, September 14, 2021

وتمرّ السنون كومضة البشير في التاريخ.
٣٩ عاماً في عينك يا ربّ كأمس الذي عبر.

شهادة شخصية في استشهاد بشير الجميّل:
نصّ من كتابي "أمس الذي لم يَعبُر"
الصادر عن "دار صادر" - آذار ٢٠٢٠.

"الرابعة تماماً بعد ظهر 14 أيلول 1982، ترجّل من سيّارته ال BMW الداكنة أمام مدخل بيت الكتائب - الأشرفيّه، آتياً من لقاء متني.
كان على شيء من التجهّم، ربّما بسبب حركته السريعة وكثافة اللقاءات المرهقة التي عقدها على مدى ٢١ يوماً بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. كان يرتدي Saharienne سپور بلون سماوي.
التفت نحونا، أنا وصحافي زميل، ورفع يده بتحيّة. دخل إلى قاعة الإجتماع الأخير مع أهل بيته ورفاق مقاومته. كنتُ على وشك اللحاق به لأخذ موافقته على كتاب أعددتُه عن"شهادات الكبار" فيه، قبل طباعته وإصداره في 23 أيلول، يوم تسلّمه سدّة رئاسة الجمهوريّة.
في تلك اللحظة، نادتني زميلة صحافيّة من شرفة إذاعة "صوت لبنان" الملاصقة، حيث كنت أُعدّ وأقدّم ثلاثة برامج سياسيّة أبرزها "شخصيّة وهويّة"، كي أردّ على اتصال هاتفي من إحدى الشخصيّات المشاركة.
إستدرت نحو مدخل الإذاعة وصعدْتُ إلى الطابق الثاني حيث الاستوديو والهاتف. ولم أكَدْ أُجيب محدّثي، وكان نائب جزّين الدكتور فربد سرحال، حتّى دوّى انفجار كبير اهتزّت له أركان المبنى.
للوهلة الأولى ظننّا أنّ منظّمة فلسطينيّة ما تودّعنا بصاروخ وهي تنسحب من بيروت! ولكنْ... كانت الجريمة أفظع:
لقد دمّروا بيت المقاومة اللبنانية على رأس المقاوم الأوّل...ولشدّة ذهول الناس تداخلت الآمال بالصلوات والوقائع بالأوهام.
وكنتُ أنا من بين الذين توهّموا أنّ البشير خرج سالماً، إذ اختلط عليّ مشهد شخص أخرجه المنقذون، بعد نصف ساعة، من تحت الركام، وفيه بعض الشبه، وأدخلوه سيّارة إسعاف للصليب الأحمر تحمل الرقم 9.
وبدأت الروايات: بشير أُصيب فقط بكسر في يده أو رجله، إنّه بخير في مستشفى
"أوتيل ديو". لا، إنّه في مستشفى الجعيتاوي. لا لا، نزل إلى البيت المركزي، إلى مقرّ القيادة في الكرنتينا، صعد إلى بكفيّا!... حتّى أنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية آنذاك الشيخ أسعد جرمانوس أشار أمام الشخصيات المحتشدة في الطابق الرابع لمبنى الإذاعة إلى معلومة عن وجود بشير في مستشفى قريب!
وكذلك فعلت شخصيّات كثيرة سياسيّة وحزبيّة توافدت إلى "صوت لبنان"...
ومع تقاطع هذه الروايات طلب منّي المدير العام للإذاعة الوزير السابق جوزف الهاشم أن أكتب خبراً سريعاً عن نجاة بشير، فكتبت:
"لقد نجا الرئيس القائد، لقد نجا لبنان.
فخامة الرئيس الشيخ بشير الجميّل بخير"!
وعمدنا إلى بثّ الخبر على هواء الإذاعة قرابة السادسة مساءً.
نعم، انفرجت أسارير الناس ولبنان، ولكنْ... إلى حين قصير. فتبيّن بعد ساعتين أنّ بشيراً قد استشهد، وعاد فعلاً إلى بكفيّا في زيارة أبديّة، وإلى تاريخ لبنان في قمّة أمجاده!
بعد بضعة أيّام، تحاملتُ على صدمتي، وعدتُ إلى مكتبي في "صوت لبنان"، يعتصرني ألمُ المكان والزمان.
وسكبت ذاك الألم في نصّ صغير نشرتُهُ في جريدة "النهار" بعنوان "الرماد الأحمر".
ومن هناك إلى كلّ ما ومَن صار بعد البشير،
بما لا يُشبه في شيء ما ومَن كان معه.
أمّا "كتاب الشهادات " فاستُشهد أيضاً،
و بقي بعض محتوياته حيّاً، تمّ جمعها في مجلّة صغيرة.
فكلّ شيء يصغر بعد رحيل الكبار !