احمد الأيوبي- المطران سويف يدخل «مجمع التنمية الشاملة» في الفاتيكان

  • شارك هذا الخبر
Friday, April 16, 2021

في زمن انهيار الدول يعود الناس إلى منظومة القيم، وتلجأ الشعوب إلى ما تحمله الأديان من عناصر التراحم والتكافل الإنساني العام، ويتوحّد الناس في المصائب، بينما تتمزق المنظومات الحاكمة في التناهش على بقايا السلطة، محاوِلة جرَّ الناس معها إلى الانقسامات والعصبيات المصطنعة، فتفرغ قدرات الدولة وتسود الفوضى، وتصبح الحاجة شديدة الإلحاح إلى منظومة القيم الدينية والأخلاقية لضبط الجموح البشري في الصراع من أجل البقاء.

هذا هو حالنا اليوم في لبنان: دولة تتساقط تحت وطأة صدام ثيران السلطة الهائجة، وشعب يبحث عن مراكب إنقاذ تحمله إلى شاطئ الأمان، بعد أن وضعنا الربّان في «التايتانيك» وتوجه بها إلى «جهنّم». وبينما وقفت بكركي في وجه مشروع إلغاء لبنان الرسالة، والتعددية والحريات، كانت آلة الهدم تنهش في جسد الكيان، لتقنع اللبنانيين بأن يكفروا بكلّ القيم السمحاء والناظمة للثوابت التي تحكم حياتهم، وهي سبقت إعلان تأسيس الدولة وشكّلت أرضية التلاقي بينهم رغم كلّ ما جرى من صراعات وحروب.

مفهوم الخير العام.. مدخلاً للمبادرة

يقودنا سياق هذا النقاش نحو ما يمكن أن تأخذه القيادات الدينية من مبادرات تتجاوز حدود إمارات المافيات الحاكمة، لتحافظ على جوهر الكيان وتحافظ على وحدة النسيج الاجتماعي الذي يرفض ما تحمله سلطة الجحيم من مشاريع مدمّرة للوحدة والدولة، وبعد فشل «المسؤولين» في تأمين ما أسماه البطريرك بشارة الراعي «الخير العام» في مؤتمر البطاركة والأساقفة حول كاريتاس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنعقد في 27/2/2019.

في هذا المؤتمر تحدث البطريرك الراعي عن الخير العام في «البيئة التعددية حيث يتعايش أشخاص متنوعو الدين والعرق والثقافة، تقتضي خدمة الخير العام علاقات تضامن وتواصل وتعاون من أجل خدمة الإنسان في هذه الجماعات المتنوعة، موضحاً أنّ «هذه الجماعات مدعوّة لتكوين نسيج موحّد ومتناغم تستطيع فيه كل واحدة منها أن تحافظ على خصوصيتها واستقلاليتها، وفي الوقت عينه تساهم في حياة المجتمع والدولة من أجل توفير الخير العام الذي هو ضمانة خير الاشخاص والجماعات.

وأضاف البطريرك الراعي: «نحن في لبنان نعيش في وطن تعددي، والتعددية فيه من صلب كيانه وتكوينه. ففيه جميع الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية والجماعات البروتستانتية وفيه الطوائف الاسلامية الاربع: السنيّة والشيعيّة والدرزية والعلوية، بحيث يأتي المجموع ثماني عشرة طائفة».

ولفت الراعي إلى أنّ «كاريتاس لبنان المنتشرة على كامل الاراضي اللبنانية، والتي هي جهاز الكنيسة الراعوي الاجتماعي، تؤدي خدمة المحبة والخير العام للجميع من خلال برامجها الاجتماعية والانمائية والصحية المتنوعة. كما ننوه بالمنظمات غير الحكومية المسيحية الاخرى التي تؤدي خدمة الخير العام وفقا لبرامجها الخاصة».

ونبّه البطريرك الراعي إلى أنّ «خدمة الخير العام تتأثر اليوم بسبب الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت من جراء الازمات السياسية المتلاحقة، مؤكداً أنّ «تأمين الخير العام هو من مسؤولية الجميع: إنها مسؤولية كل عضو في المجتمع وفقا لامكاناته بحيث يسعى بما له من مقدرات وأهليّة لتحقيق هذا الخير العام الشامل للجميع، وكأنه خيره الشخصي. من المعلوم ان ملكيته الخاصة بموجب تعليم الكنيسة ليست حقا مطلقا له، بل لها وظيفة اجتماعية لصالح الانتفاع العام».

دعوة لإنشاء روابط جديدة من أجل السلام والإنماء

رئيس «كاريتاس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» كبرييل حتِّي قال: «نأتي جميعنا من بلدان مضطربة وصفها البابا فرنسيس بتقاطع المواقف الصعبة»، داعياً إلى «إنشاء روابط جديدة بين الناس والمؤسسات المكرّسة لبناء حضارة تتمحور حول السلام وخدمة جميع البشر والخير العام».

واعتبر حتّي أن الكثيرين يعانون من الفقر الناجم عن ضعف المؤسسات الحكومية، والصراع المسلّح، والتطرّف، والكوارث الطبيعية التي تشهدها بعض بلداننا. وأضاف: «لكن يجب أن نتذكر أيضاً أن شعوبنا تتمتع بالصمود، ولقد أثبتت جذورها قوّتها على مدى آلاف السنين الماضية، وهي مغروسة ومتجذرة في أرض تاريخنا، وراسخة ليبقى فيها أبناؤها».

خدمة التنمية البشرية الشاملة


يشرح الكاردينال توركسون مفهوم خدمة التنمية البشرية الشاملة، مشيراً إلى أنّ «الحبر الأعظم أنشأ لهذه الخدمة دائرة جديدة في الكرسي الرسولي في العام 2016، وهي معنيّة بالتنمية المتكاملة، ومهمتها مساعدة كاريتاس وتسهيل عمليات الدمج بين مختلف الدوائر».

وتكمن رسالة هذا المجمع الذي يترأسه الكاردينال بيتر توركسون، في الحقول التالية: خدمة المحبة، عدالة وسلام، خدمة الصحة، المهجرون والمهاجرون، الوقوف الى جانب المتروكين والمهمشين والمرضى والمعوزين وضحايا النزاعات والحروب والكوارث الطبيعية، وكل أنواع العبودية والإتجار بالبشر. ويخدم فيه كرادلة وأساقفة وكهنة مع العلمانيين.

المطران سويف: رسالة طرابلس إلى الفاتيكان

على هذه الخلفية، وفي هذا السياق من مقاربة الأحداث والتطوّرات، عيّن البابا فرنسيس، راعي أبرشية طرابلس المارونية المطران يوسف أنطوان سويف عضواً في مجمع خدمة التنمية البشرية المتكاملة، بما يعنيه ذلك من اهتمام بالمدينة التي يتبوّأ مسؤوليتها الكنسية، وما لشخصه من احترام، وما يحمله من كفاءة تتيح فتح آفاق العمل التنموي الإنساني لصالح طرابلس والشمال.

أصبح لطرابلس موقع مؤثِّر في دوائر الفاتيكان، وهذه فرصة نادرة لإعادة تقديم صورة المدينة: مدينة للسلام والشراكة الإسلامية المسيحية، ينبغي على كلّ من يحب الفيحاء أن يعمل على تعزيزها، والاهتمام بتحويلها إلى تحوّل حضاريّ إنساني في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا نحن أبناء طرابلس اللبنانيين.

عناصر المبادرة

من هنا يبدأ التفكير في كيفية الوصول إلى صيغة تلامس الواقع اللبناني، وتحديداً واقع طرابلس والشمال، مع وصول أحد قياداته الدينية الشابة إلى هذا الموقع الرابط بين استراتيجيات السلام والتنمية التي يعمل عليها الفاتيكان، وبين كون المطران سويف راعياً لأبرشية طرابلس وتوابعها للموارنة، وهذا موقع متقدِّم يبعث على الفخر والاستبشار بالدور الذي من شأنه أن يقوم به المطران سويف لفتح ثغرة في جدار الحصار المطبق الذي تتعرض له الفيحاء وشمالها.

تستند المبادرة المطلوبة إلى أقانيم ثلاثة:

- البعد المسيحي، كوننا نتحدث عن أهمية تعيين المطران سويف في مجمع التنمية البشرية الشاملة، وهو بعد حضاري راسخ في مدينة ضمّت أحد أوائل الصروح البطريركية في لبنان، ولا شكّ أنّها الآن ستكون تحت عين الفاتيكان بحكم وجود المطران سويف في أحد مواقع القرار الهامة.

يدرك اللبنانيون اليوم أن دولة الفاتيكان، هي من الدول القليلة في العالم التي تريد الحفاظ على لبنان بدون أن تضربه عواصف الإقليم التي تطيح بالنسيج الاجتماعي وبالتوازنات في المنطقة.

- البعد الإسلامي العربي لطرابلس والشمال، والذي يمتدّ بمرجعياته نحو مكة المكرمة، مهبط الوحي، وحيث أطلقت المملكة العربية السعودية سلسلة مبادرات للحوار الإسلامي المسيحي، وتحديداً مع الفاتيكان.

وكذلك، يبرز الأزهر الشريف بحضوره التاريخي في طرابلس، وبكونه منهل علوم آلاف العلماء من أنحاء العالم، ومنهم أبناء الفيحاء.

تفعيل الشراكة الإسلامية المسيحية سبيلاً لفكّ الحصار

وبينما تتمدّد الأزمات الاجتماعية في لبنان، وينال طرابلس والشمال منها النصيب الأكبر، يصبح البحث عن المخارج واجباً دينياً وأخلاقياً ووطنياً، ولا نجد في هذا السياق حلاً، سوى في تفعيل الشراكة الإسلامية المسيحية، لفكّ الحصار الداخلي والخارجي المفروض عليها، عبر التشاور والتدارس بين الكنائس ودار الفتوى، وبلدية طرابلس وغرفة التجارة والصناعة والزراعة، ونقابات المهن الحرة، مع حراك مدنيّ ناضج ومحترف، وصولاً إلى بوتقة تعاون فاعل، مبنيّ على الشفافية والتفاني في خدمة الناس وإرساء مبدأ الخير العام، إنقاذاً للناس وحفاظاً على الكيان.