سحب التدويل مقابل وقف التدخل الإيراني؟

  • شارك هذا الخبر
Monday, March 1, 2021

دخل لبنان في مسار جديد من الصراع السياسي. هذا هو المعنى البديهي الأول للدينامية التي تحاول بكركي إطلاقها تحت شعار الحياد، ومن خلال المطالبة بعقد "مؤتمر دولي خاص بلبنان". هذا الصراع يمكن أن ينتهي بمقايضة ودية، وبسرعة. لكن يمكن أن يتحوّل أيضاً إلى أزمة خطيرة ثم إلى حرب أو حروب، قبل أن تفرض موازين القوى المستقبلية تسوية ما. بمعنى آخر، سواء سلك الصراع مساراً سلمياً أو عنيفاً، فإن كل الطرق ستقود إلى المقايضة والتسوية عاجلاً أم آجلاً، إلا إذا كان لدى أحد الأطراف مصلحة في الخراب (؟).

الطائف ونقيضه
يدرك ذلك جيداً كل من البطريرك بشارة الراعي، والسيّد حسن نصرالله. يدركه أيضاً الفاتيكان وجو بايدن وإيمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين وعلي خامنئي. اختبر ذلك، خصوصاً، كل زعماء الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990.

الانقسام بين أطراف الصراع أكثر من معقّد. هناك من يستسيغ تغيير النظام لكي يكيّف الدستور مع واقع هيمنته الطائفية على الدولة. في المقابل، هناك من يطالب بتطبيق "اتفاق الطائف" بشكل كامل، قبل البحث في سبل تطويره وتعديله لاحقاً. طرفٌ يتمسك بسلاحه ضمن وضعية من خارج المؤسسات الشرعية للدولة. وآخر يطالب بحل مسألة السلاح وفق "الطائف" وضمن استراتيجية دفاعية وطنية. الالتحاق بمحور تقوده إيران في المنطقة، خيار يصرّ عليه البعض. الحياد الذي يعني (أو يجب أن يعني) الخروج من سياسة المحاور لتجنيب الوضع الداخلي تبعات الاضطرابات الإقليمية، مطلب ملح لدى البعض الآخر.

أمام خيارات ومطالب لا يمكن التوفيق في ما بينها، أي تسوية ممكنة؟ ما هو المدى الذي يمكن أن تبلغه التنازلات المتبادلة؟ وماذا لو فشلت المقايضة؟ أما السؤال الأهم، فيتمثل في معرفة تأثير الإنهيار المالي والاقتصادي على طبيعة التسوية إنْ أُبرِمَت؟ أو تأثيره على الواقع السياسي والإداري اللبناني إنْ فشل الحوار وافترق المتحاورون؟

معنى التدويل
بالطبع، يصعب التوفيق بين مطلب البطريرك الماروني بطرح المسألة اللبنانية أمام مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، وتحذير الأمين العام لحزب الله من التدويل تحت حجة أن ذلك "مضر للبنان، وخطر عليه، حاضراً ومستقبلاً (...)"، وأنه بمثابة "استقواء بعض اللبنانيين على بعضهم الآخر". وهو تحذير معطوف على رفض مطلق لأي قرار دولي يصدر تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة، باعتباره دعوةً إلى حرب، بحسب قول نصرالله. موقفٌ متصلبٌ قوبل بتوضيح من قبل الراعي خلال التجمع الشعبي في بكركي، يوم السبت 27 شباط 2021. إذ قال إن المطلوب هو "إعلان حياد لبنان الإيجابي الناشط"، وإعطاء الحياد "صفة دستورية ثابتة". وبكركي لا تريد من المؤتمر الدولي "جيوشاً ومعسكرات"، على حد تأكيد الراعي، بل أنْ "يثبّت الكيان اللبناني المعرض جدياً للخطر، وأن يعيد تثبيت حدوده الدولية". وأنْ يعلن "حياد لبنان" (...)، وأنْ "يوفر الدعم للجيش اللبناني ليكون المدافع الوحيد عن لبنان، والقادر على استيعاب القدرات العسكرية الموجودة لدى الشعب اللبناني من خلال نظام دفاعي شرعي"، أي استيعاب قدرات حزب الله ضمن مؤسسة الجيش.

من الواضح إذاً أن التدويل المطروح في خطاب البطريرك الراعي، لا يتعلق بتدويل إدارة لبنان، أو وضع البلد تحت وصاية الأمم المتحدة. بل إدارة دولية للأزمة المستعصية اليوم، من أجل إيجاد مخرج متوافق عليه بين جميع الأقطاب، من طهران إلى واشنطن مروراً بالرياض وموسكو وباريس. لا شك أن دينامية بكركي تزعج وتربك حزب الله بما فيه الكفاية لكي يبحث عن هدنة على الأقل. فهو لا يحتمل اشتباكاً طائفياً مع الكنيسة المارونية. نقطة ضعف حزب الله هي حين ينهض المسيحيون والموارنة ضده. كما أن الحزب يدرك أن التدويل الشامل لن يكون مستبعداً نهائياً، كفرضية من الفرضيات على الأجندة الدولية. لكن شرط الهدنة هو عملياً جزء من شرط التسوية الكبرى: أنْ توقف إيران تدخلها في لبنان. هنا، ثمة سردية معاكسة تقول إن وقف التدخل الإيراني مشروط بوقف تدخلات جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين في الشؤون الداخلية لهذا البلد الصغير. إذا كان حزب الله مستعداً فعلاً لمعادلة "صفر تدخلات خارجية" في شؤون لبنان، فيجب أن يرى في مبادرة بكركي فرصة سانحة، وأن يدفعها بها قدماً بدلاً من رفضها. لما لا تجتمع إيران وروسيا والصين والدول الغربية برعاية الأمم المتحدة للاتفاق على وقف جميع التدخلات الأجنبية، وتقديم تعهدات رسمية حيال ذلك، ومن ثم احترام هذه التعهدات؟

نحو قرار متوازن
لا يزال بوسع حزب الله تجنّب أي تطور أكثر إحراجاً له. فيلاقي بكركي فوراً عند منتصف الطريق. أو ربما يختار المواجهة ويعدّ عدّتها، إذا كان غير وارد لديه تقديم تنازلات في الفترة الراهنة. أما بكركي، فلن تتخلى مسبقاً عن مطالبها قبل الحصول على تنازل مقبول ومعقول من الحزب. بل ستفضل عدم التنازل الآن، كي لا تحرم نفسها من ورقة تفاوضية أساسية لاحقاً. أمام إصرار الحزب على استمرار ربط لبنان بمحور إيران، وأمام تأجيله المستمر للبحث الجدي والحاسم في الاستراتيجية الدفاعية التي من المفترض أن تؤدي إلى حل مسألة سلاحه، ستمضي بكركي على الأرجح في مسار فرض وقائع جديدة على المشهد. يمكن أن يتعلق الأمر بأوراق قوة، سيتم توظيفها في المفاوضات بشأن حل الأزمة وتحديد مصير البلد.

إذا توفّر إجماع دولي حول إدارة الأزمة، تحديداً بين روسيا والدول الغربية، يمكن عندئذٍ للمجتمع الدولي، وبتحفيز من الفاتيكان، أن يتعامل مع حراك بكركي بوصفه مسوغاً لبحث الملف اللبناني في مجلس الأمن في نيويورك، حتى لو لم يتقدم لبنان بطلب رسمي في هذا الصدد. وإذا كانت رسالة نصرالله عن خطورة استخدام البند السابع، قد وصلت، يمكن للمجتمع الدولي أن يكتفي بقرار متوازن يدعم فكرة حياد لبنان. ليس هذا وحسب. فلا شيء يمنع "مجموعة الدعم الدولي للبنان"، التي تضم ألمانيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، والتي تأسست عام 2013، وتتابع أصلاً وضع لبنان عن كثب منذ ذلك الوقت، أن تُهَيّئ الأجواء لعقد اجتماع أو مؤتمر دولي واسع لبحث الأزمة اللبنانية، كما تطالب بكركي.

شبه تقسيم
سيناريو كهذا، في حال تحقق، سيمثل معطى جديداً لن يكون إلا ضاغطاً على حزب الله، مقلصاً خياراته. إما أن يفاوض ليتراجع ويقدم تنازلات. وهذا المطلوب محلياً ودولياً. فيُسحَب ملف التدويل مقابل هذه التنازلات التي لن تكون أقل من وقف التدخل الإيراني وإيجاد مخرج لمسألة السلاح. وإما أن يصعّد، فيتحول الصراع إلى أزمة، لا شيء يمنع تحوّلها بدورها إلى حرب داخلية و/أو مع إسرائيل. لتأتي بعدها تسوية ما، ترتبط بنتائج الحرب وبموازين القوى.

أما إذا ظلت الحرب مستبعدة، وظل الاستعصاء السياسي مستمراً، فلا شيء يمنع من أن يؤدي الضغط إلى اتفاق مع حزب الله وراعيته إيران، يقضي بتحويل لبنان، بشكل علني أو ضمني، إلى "كوــ إمبريوم" (Co-imperium)، حيث تكون هناك إدارتان. واحدة دولية أو غربية تتولى شؤون قسم من أرضه. وثانية إيرانية، تدير القسم الآخر. هذا الشكل من التدويل هو سيناريو تقسيمي. لكن هل من خيار آخر عملياً، في ظل المسار التدميري والانهيار المالي والاقتصادي، وبعد تحوّل الدولة نهائياً إلى "دولة فاشلة"؟ إلا إذا كان الغرب بغنى عن "الهمّ" اللبناني، فيكتفي بإدارة الأزمة بأبعادها الإنسانية فقط، على قاعدة الحد من أضرار الفوضى اللبنانية، حتى إشعار آخر؟


سامي خليفة- المدن