صراع الكتلتين الماليتين اليهودية والكاثوليكية لقيادة اميركا

  • شارك هذا الخبر
Sunday, February 28, 2021

كتب جورج حداد

ان المنازعات والقلاقل التي رافقت ـ وما تزال ـ الانتخابات الرئاسية الاميركية الاخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ـ هذه المنازعات تثبت مقولة ان المَعلَم العميق الرئيسي للحياة السياسية الاميركية هو الصراع بين الكتلة المالية اليهودية الاميركية وحلفائها "التوراتيين" الاميركيين، وبين الكتلة المالية الكاثوليكية. وفي الملاحظات التالية نحاول ان نلخص الخصائص الاجتماعية ـ السياسي ـ المالية، ومجرى هذا الصراع، من وجهة نظرنا الخاصة، الخاضعة للنقاش. وندعو جميع المحللين العلميين والموضوعيين لدراسة ومناقشة هذه الاطروحات، التي يتعلق بها مصير جميع دول وشعوب العالم على الاطلاق:

ـ1ـ ان التجمع اليهودي في اميركا هو اكبر تجمع يهودي في العالم، باستثاء "اسرائيل". والكتلة المالية اليهودية الاميركية هي اضخم من الكتلة المالية اليهودية بأسرها بما في ذلك "اسرائيل". وقد ادى هذا الواقع الى النتائج التالية:

اولا ـ ان الكتلة المالية اليهودية الاميركية هي التي اصبحت تقود الكتلة المالية اليهودية العالمية والحركة اليهودية والصهيونية العالمية بما في ذلك "اسرائيل". واستنادا الى هذا المعطى التاريخي يمكن القول ان اليهودية العالمية قد تأمركت، بمقدار ما ان الامبريالية الاميركية قد تهوّدت. ونذكر هنا ان اليهودية العالمية كانت، في اعقاب الحرب العالمية الاولى، قد نقلت مركز قيادتها العالمية، الدينية ـ السياسية ـ المالية، من بريطانيا الى اميركا. وبالرغم من نشوء الكيان الصهيوني، فإن الاحداث والتطورات ادت الى نتيجة واقعية حتمية هي ان المركز اليهودي الاميركي اصبح يضاهي المركز اليهودي الاسرائيلي سكانيا، الا انه يفوقه بما لا يقاس ماليا وسياسيا، بفضل التحالف الوثيق بين اليهود والبروتستانت التوراتيين في اميركا.

ثانيا ـ ان الكتلة المالية اليهودية الاميركية والعالمية اخذت تعمل لاجل فرض الهيمنة الامبريالية الاميركية على العالم وفرض معادلة "القطب الاميركي الاوحد"، الذي تقوده الكتلة المالية ـ السياسية اليهودية، والذي تخضع له وتسير في ركابه "اسرائيل" والحركة الصهيونية العالمية.

ثالثا ـ نستنتج من ذلك: ان العدو الرئيسي للشعب الفلسطيني المظلوم ولحركة التحرر العربية والعالمية اصبح يتمثل في الامبريالية الاميركية التي تقودها الكتلة المالية اليهودية الاميركية.

ـ2ـ يبلغ عدد الكاثوليك في العالم حوالى 1.2 مليار نسمة. وهناك 67 بلدا في العالم يشكل فيها الكاثوليك غالبية السكان. وهذا يعني: ان المؤسسة العالمية الكاثوليكية، الاكليروسية ـ المالية المتداخلة، هي مضطرة ان تساير، وان تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية والحركات الاجتماعية في مختلف البلدان التي يشكل فيها الكاثوليك اكثرية السكان وخصوصا في اوروبا واميركا اللاتينية. ونشير هنا بالاخص الى ما يلي:

ـ أ ـ في الستينيات من القرن العشرين، وبعد انتصار الثورة الكوبية التي طرح فيها فيديل كاسترو مقولته "ان الثورة هي للفقراء، كما ان المسيح هو للفقراء، فمن هو مع الثورة هو مع المسيح، ومن هو ضد الثورة فهو ضد المسيح"، ـ في تلك الظروف ولد الوعي الاجتماعي والتسييس المتزايدان في الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية، مما أدى الى نشوء ما يسمى "حركة لاهوت التحرر" في اميركا اللاتينية، المعادية للدكتاتوريات العميلة وللامبريالية الاميركية.

ـ ب ـ مثلما عمدت الامبراطورية الرومانية قديما لتنصيب اباطرة غير رومان، بهدف استمالة الشعوب غير الرومانية (الاباطرة: كاراكلا، الفينيقي الاصل، وفيليب العربي، السوري الاصل، وقسطنطين الكبير، الاغريقي الاصل، وغيرهم)، اتجهت الكنيسة الكاثوليكية في الخمسين سنة الماضية نحو اختيار بابوات غير ايطاليين كانوا بالتتالي: بولوني، فألماني، واخيرا البابا الحالي الاميركي اللاتيني.

ـ3ـ ان الكتلة المالية الكاثوليكية العالمية (بما فيها الاميركية) هي اكبر مالك للرساميل النقدية والاوراق المالية والصروح الكنسية والاديرة والاوقاف والممتلكات العقارية والأراضي والشركات الصناعية والتجارية في مختلف بلدان العالم. ويعتبر الفاتيكان اكبر مراكم للثروات في العالم. ولا احد يعلم بالضبط كم هو وزن المؤسسة الكاثوليكية أو قيمتها بالدولار أو بعملات أخرى ولا حتى البابا نفسه! وعندما طلب من أحد المسؤولين بالفاتيكان أن يعطي ولو تقديرا نسبيا لثروة الفاتيكان اليوم، رد بجواب معبر يقول: "الرب وحده يعلم ذلك!".

ومن اشهر اثرياء العالم الكاثوليك: بيل غيتس، كارلوس سليم (ماروني ـ مكسيكي)، أمانسيو أورتيغا جاونا، برنارد أرنولت وكارل ألبرخت.

ـ4ـ وخلافا لاي اعتقاد سطحي فإن المؤسسة المالية الكاثوليكية العالمية بقيادة الفاتيكان لا تدير ممتلكاتها النقدية والمالية تحديدا، بطريقة اكليروسية شبه اقطاعية وتقليدية متخلفة كما تدار بعض الاوقاف الدينية في هذا البلد او ذاك، بل انها تديرها بطريقة رأسمالية علمية حديثة ومتطورة وبواسطة مجموعة متجددة من اساطين الاقتصاد والمالية، الاميركيين والفرنسيين والالمان وغيرهم، المقيمين داخل وخارج ايطاليا، من "المؤمنين" الكاثوليك وغير الكاثوليك، ومن العلمانيين ـ الزمنيين واللادينيين وحتى الملحدين. ولهذه الغاية فإن الادارة الاقتصادية ـ المالية الكاثوليكية تتعاون مع المؤسسة البنكية روتشيلد (Rothschild) اليهودية المشهورة، وبنك مورغان J.P. Morgan الاميركي، وبنك امبروس Ambros الانجليزي، وبنك كريدي سويس Le Crédit Suisse السويسري، وبنك Banco di Roma وبنك Banco Commerciale وبنك Banco Santo Spirito في ايطاليا.

ـ5ـ حسب مختلف الدراسات الاميركية، فإن حوالى نصف السكان الاميركيين هم من اليهود ومختلف المذاهب البروتستانتية ("التوراتيين" وغيرهم)، وغالبيتهم هي من البيض الانغلو ـ ساكسون. اما الكاثوليك فيشكلون تقريبا ربع عدد السكان (حوالى 80 مليونا) ولكنهم اكثر تنوعا ويتشكلون من ايرلنديين وايطاليين وبولونيين والمان واسيويين (عرب وغيرهم) واميركيين لاتينيين. اي انهم اكثر انفتاحا وارتباطا بمختلف شعوب وبلدان العالم التي يتحدرون منها.

ـ6ـ بالرغم من الاثار الكارثية للحرب العالمية الثانية، وانهيار النظام الكولونيالي الاوروبي الغربي القديم وخسارة الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية لمستعمراتها في اسيا وافريقيا، فإن الكتلة المالية الكاثوليكية ــ بفعل وجودها الكثيف والنافذ في اوروبا، وبما يمثله من اهمية "روحية" وسياسية واقع وجود الفاتيكان في ايطاليا ــ حافظت على موقعها في اوروبا بوصفه مركز القيادة العالمية للكتلة المالية الكاثوليكية. وفي هذا السياق مثّل اصدار اليورو سنة 1999 انتصارا ضمنيا، مرحليا ومستقبليا، للكتلة المالية الكاثوليكية العالمية التي تعتمد على السوق الاوروبية كمحور رئيسي للاقتصاد العالمي عامة والاقتصاد الغربي خاصة.

وانطلاقا من هذه الوقائع فإن الكتلة المالية الكاثوليكية العالمية، بما فيها الاميركية، تؤيد مفهومة "العالم متعدد الاقطاب"، الذي تحتل هي فيه مركزا ممتازا ومميزا، على الضد من الكتلة المالية العالمية اليهودية المتأمركة التي تؤيد مفهومة "القطب الاميركي الاوحد" المتهوّد. وفي هذا السياق فإن الكتلة المالية الكاثوليكية ليست شديدة التمسك بسياسة الهيمنة الدولية لاميركا، وليست حريصة بشدة على وحدة الدولة الاميركية ذاتها.

ـ7ـ ان الصراع بين الكتلتين الماليتين اليهودية (مع حلفائها التوراتيين) والكاثوليكية لا يقتصر على الحياة السياسية الاميركية، بل انه يجد امتداده في الحياة السياسية للعالم بأسره. وقد تبدى هذا الصراع، وللمثال وحسب، في الاحداث الكبرى التالية:

ـ أ ـ أن الكاثوليك يشكلون ربع سكان الولايات المتحدة الا أنه خلال تاريخ الولايات المتحدة ترأس الدولة رئيسان كاثوليكيان فقط (من اصل 46 رئيسا) الاول هو جون كينيدي الذي انتخب عام 1961 وتم اغتياله في 1963، والثاني هو الرئيس الحالي جو بايدن الذي انتخب بصعوبة. ويعتقد الكثير من المراقبين ان فترة ولايته لن تكون هادئة، وربما لن يكون مصيره افضل من مصير كينيدي.

ـ ب ـ محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1981.

ـ ج ـ تشجيع ودعم حرب صدام حسين ضد النظام الثوري الاسلامي الايراني في 1980 ـ 1988، التي كبدت الشعبين الشقيقين، الايراني والعراقي، خسائر بشرية ومادية هائلة.

ـ د ـ شن الحرب على العراق وتدميره في 2003 لمنع تحول العراق نحو "الخيار الاوروبي"، بصدام حسين او بدونه.

ـ هـ ـ اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في 2004، لمنع التوجه الفلسطيني نحو اوروبا، التي ــ مع الكتلة المالية الكاثوليكية العالمية ــ تدعم "حل الدولتين: الاسرائيلية والفلسطينية"، في حين ان اميركا والكتلة المالية اليهودية تدعم حل "الدولة اليهودية الواحدة" العنصرية، في فلسطين والاراضي العربية المحتلة الاخرى، والتصفية الكاملة للقضية الفلسطينية.

ـ ح ـ اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ومن ثم شن العدوان الاسرائيلي الفاشل ضد لبنان (بقرار اميركي ـ سعودي، نفذته اسرائيل) سنة 2006، واخيرا شن الحرب الحالية الشرسة: الاعلامية، السياسية، الامنية (الاغتيالات واعمال التخريب ومنها تفجير مرفأ بيروت في اب 2020) وخاصة الحرب المالية والاقتصادية ضد الدولة اللبنانية والشعب اللبناني ككل، لمنع توجه لبنان نحو الانفتاح على اوروبا، والانفتاح الجزئي على روسيا والصين وايران؛ وهو التوجه الذي تدعمه الكتلة المالية الكاثوليكية العالمية.

ان صراع الكتلتين الماليتين العالميتين، اليهودية والكاثوليكية، ازال كل الفواصل بين السياستين الداخلية والخارجية للدولة الاميركية. فما بحدث في اميركا اصبح ينعكس بقوة عالميا. وما يحدث على الساحة الدولية اصبح ينعكس بقوة على اميركا. وانطلاقا من ذلك يمكن الاستنتاج ان تصاعد قوة ونفوذ ووحدة "المعسكر الشرقي الجديد"، وعلى رأسه روسيا والصين وايران، هو الذي سيقرر في المستقبل القريب مصير الدولة الاميركية.

كاتب لبناني مستقل

(موقع العهد)