الدكتور داود الصايغ- أسّسوا أنفسكم واتركوا النظام جانبًا
شارك هذا الخبر
Tuesday, January 26, 2021
أسّسوا أنفسكم واتركوا النظام جانبًا الدكتور داود الصايغ لم يُخلق لبنان لكي يكون هديةً لأحد. كان هو الهدية، جوهرة وُضعت بين أيدي من لا يعرفون التمييز بين الأصيل والمزيّف، فباعوها بالرخص في أسواق الصفقات والتبادلات. لم يعرف هؤلاء أن لبنان في الأساس إنما بُنيَ على رؤوس الأَسَل مثل أعلى الممالك في قصائد المتنبي التي تُبنى على الرماح.
لم يعرفوا أن لبنان بُنيَ على رماحٍ من نوعٍ آخر. بُنيَ على المنارات في سماء الشرق. ولذلك فإنهم لن يَهزِموه. لا بجهل الجاهلين الجالسين على مقاعد الاستسلام والجشع والبحث عمّن يحمّلونه مسؤوليات الكوارث، ولا بأطماع الذين جعلوه بالافتراض، من مَناطِقهم. فبعثوا إليه بالتماثيل بعد الصواريخ.
في بعض الزمان، أيام التأسيس وتدعيم الأسـس، كان في لبنان مناراتٍ من نوعٍ آخر. كان هنالك بُناة. يفتقدهم اللبنانيون كثيرًا هذه الأيام ويسترجعون تاريخهم. صنّاع أوطانٍ هم. إذ ماذا سيقول التاريخ عن محتلّي كراسي هذه الأيام. اذكروا لنا إنجازًا واحدًا. قولوا لنا لماذا أنتم هنا. طبعًا أنتم غير مسؤولين. فالحق في النتيجة هو على النظام.
ألم تتعبوا بعد من الحديث عن النظام كلَّما تَعبتُم. من التفاهمات القاتلة إلى الشعارات الخادعة إلى الكوارث التي تَسبّب بها المجهول. على الأقل قولوا لنا من تَسبّب بفاجعة مرفأ بيروت. إنها حصلت منذ خمسة أشهر ولم نعرف شيئًا بعد. بالطبع لم نعرف شيئًا على طول تاريخ الظلام الذي لفَّ لبنان في الحِقب الماضية، فلم نعرف ولن نعرف شيئًا عن التفجيرات والاغتيالات التي أصبح ضحاياها شهداء في ضمير الوطن وحسرات في القلوب، كونها باتت جزءًا من مآسي الأيام السوداء حين كان التحكّم بالقرار بأيدي من لا يعبأون بالقوانين والأنظمة... ونظام الحكم.
ولولا إصرار وعِناد الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، الذي التقى مع القوى الحيّة في جبهة ١٤ آذار، لما وَصَلَ ملفّ الرئيس رفيق الحريري إلى المحكمة الدولية. صحيح أن الحُكُم لم يشفِ غليل البعض، إلّا أنّه في الأساس وفي الأسباب الموجبة للقرار، دلَّ على الفاعل والفاعلين. إنّه دلَّ عليهم ولكن قُدرة العدالة الدولية على المحاسبة في واقع لبنان اليوم هي منعدمة تمامًا، خلافًا لما جرى بالنسبة إلى جرائم نَظرت فيها العدالة الدولية في ما يعود إلى كيانات يوغوسلافيا السابقة مثلًا أو إلى بعض الدول الإفريقية.
فلم يكن نظام الحكم، بمفهومه النبيل، ذاك الذي تدرّج منذ ما قبل الكيان والاستقلال، كواحدٍ من أعرق أنظمة الشرق العربي، هو المسؤول عن كل ما جرى. لأن ما جرى في السنوات الكالحة لا يُسأل عنه الدستور أو الميثاق، بل تُسأل عنه مصادرة القرار، بالأمس واليوم. مصادرة القرار التي وصلت إلى حدّ المسّ بذلك الحصن المتين الذي صان لبنان ونظامه وهو القضاء اللبناني، الذي كان من أعلى المنارات وجوهرة التاج المرصّع للمؤسّـسات، والذي لا يزال ينتظر القانون المطروح أمام مجلس النواب لاستقلالية القضاء، كما مشروع التشكيلات القضائية النائم في الأدراج.
قولوا لنا: هل نظام الحكم مسؤول عن تسلّق الصغار إلى حيث لا يجب أن يكونوا. فرنسا انتقلت في بضعةِ عقود فقط من شارل ديغول وفرنسوا ميتران وجاك شيراك إلى نيقولا ساركوزي وفرنسوا هولاند اللذان حكما فرنسا بالمؤسـسات المستمرّة من دون أي فضلٍ لهما ودونما إنجازاتٍ سابقة. هيهات بين صُنّاع التاريخ ورجال السلطة. هيهات بين القامات الكبيرة وتلك الصغيرة. قولوا لنا: ما دخل النظام في بثّ الأحقاد. هل نسيَ هؤلاء قول الشاعر: "لا يحمِل الحقدَ من تعلو به الرُّتب". هل نسوا أن الكراسي لا تصنع الكبار بل هم الذين يصنعونها.
لم تكن الدساتير يومًا مُنزلة. فهي من وضع الانسان، والانسان يغيّرها. إنها لا تَـلحظ بالضرورة كلّ شيء. وهذا طبيعي. وما يبدو فيها من ثغراتٍ أحيانًا لم يَـلحظها المشترع الدستوري، تُعالج لاحقًا بالأعراف، شرط أن يتصرّف المسؤولون كمؤتمنين على المصير. والنصوص هي في خدمة المصلحة العامة وليس العكس. فالمُشترع يفترض حُسن النوايا إلى من آلت إليهم المسؤوليات. هنالك موادٌ في دساتير الدول المتقدّمة تسقط من عدم الاستعمال. وهنالك أنظمة تعمل من دون دساتير مكتوبة في الأساس. فليست هنا مشكلة لبنان الحالية.
مشكلته أن هنالك من يريد التحكّم بقراره، هنالك من يريد الغلبة. ولكن لبنان في أي حالٍ من أحواله يقوم على ركيزتَين: الحرّية وتوازن مُكوّناته البشرية. وما من أحدٍ يُمكنه المسُّ بالحرّية في لبنان، لأنها نَشأت فيه انطلاقًا من تكوينه البشري ابتداءً من القرن الثامن عشر، يوم كان الآخرون لا يزالون في الظلام. بما فيه بعض الغرب. فالحرّية في لبنان لصيقةٌ بالكيان وهي إذا تَهددت تَهدد الكيان. وما من أحدٍ يُمكنه التغلّب على الآخر أو التحدّثَ عن حقوقٍ مهضومة.
أزمتنا اليوم ليست في النصوص. لا تهربوا إلى النظام. إذا كان هنالك من ثغراتٍ ما، فهي تُعالج بالأسلوب المناسب في الوقت المناسب. ولكن المسألة اليوم هي في مكان آخر. وهو الحلّ القريب، ذلك الحلّ الذي حمله رئيس فرنسا ايمانويل ماكرون مرتين إلى لبنان، فعاندتم ولا تزالون معاندين.
ليس الخارج هو المعرقل. من أفتى أن الانتظار هو لمعرفة توجهات إدارة جو بايدن الرئيس الأمريكي الجديد. فالعالم كلُّه، من أمريكا إلى فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي إلى الفاتيكان إلى الأمم المتحدة إلى الدول العربية كلّها طالبتنا بالإصلاح، في سبيل نجاح مدّ الأيدي الصديقة إلينا. والبداية تكون بحكومة اختصاصيين مستقلّين وفق المبادرة الفرنسية. لم يسمعوا منه. لم يتّعظوا. أعينهم على الغد، غد الكراسي. فمتى كانت الأحقاد قاعدة الحكم في لبنان، في البلد الذي رفع الوفاق إلى المرتبة الدستورية. صراعٌ سياسي في بلدٍ ديمقراطي يُمارس الانتخابات النيابية وتداول السلطة، نعم هذا مقبول لا بل إنّه مطلوب. ولكن الإصرار على استبعاد فريقٍ أو شخصٍ أو أشخاص بقرارٍ أناني مزاجي لا سند له سياسيًا أو وطنيًا، فهذا معناه أنهم لم يتعلّموا شيئًا حتى من دروس الحروب القريبة في لبنان. وهم أدرى الناس بتلك السابقة القاتلة التي قضت في مطلع سنوات الحروب بعزل أحد الأحزاب المسيحية البارزة. العزل؟ لا أحدٌ يعزل أحدًا في لبنان. ومن لم يتعلّم ذلك فليتفضّل ويعزل نفسه.
الذين عرقلوا ماذا فعلوا؟ بثّوا الشِقاق كما فعلوا دائمًا. هكذا كان اختصاصهم. وتلك كانت قضيتهم ومعاركهم. مثل قضية دونالد ترامب. ما كانت قضيته؟ أن يبقى حتى وإن خَرِبت أميركا، وهي تهددت بالخراب. والتاريخ لن يذكره إلا بالخراب. إنه هو وهو فقط. ولذلك فإنه انحدر إلى أسفل الدرجات. في أمريكا وفي غيرها من العالم هنالك من لا قضية وطنية لهم سوى وجودهم. والعالم يَبتـلي بالذين يمشون ورائَهم كالأغنام، ويُحطّمون محراب الديمقراطية في واشنطن لأنه دعاهم إلى ذلك، فمشوا. تمامًا كالأغنام. هذا حصل في أعظم ديمقراطية في العالم، أتذكرون الذين مشوا وراء هتلر في المانيا البلد الذي له أفضالٌ على الحضارة العالمية؟ هذا حصل ويحصل عندنا بكلّ أسف في لبنان، بلد ذلك "الشعب العظيم".